شعار قسم مدونات

لماذا يستمر ولاء الأتباع بعد سقوط القادة؟

blogs - من الجيش الحر السوري
في 20 تشرين الثاني نوفمبر من عام 1954 وفي مدينة شيكاغو تجمعت جماعة مسيحية حول منزل دوروثي مارتن منتظرة منتصف الليل من ذلك اليوم، وذلك أن نهاية العالم ستكون في تلك الساعة حسب زعمهم ومعتقداتهم، وقد اتخذت الجماعة إجراءاتها الخاصة في ذلك العام تبعاً لتلك النبوءة وتجهيزاً لتلك اللحظة الحاسمة وذلك بعد أن تشربت عقولهم إيماناً عميقاً حتى باتت النبوءة عقيدة راسخة، وعندما دقت ساعة منتصف الليل تغشى الجموع خشوع رهيب وساد سكون طويل ومرت لحظات خاطفة لم يحدث بعدها أي شيء!

بدا على وجوه أفراد الجماعة استغراب لم يلبث أن تحول إلى توتر وغليان وهم يبحثون عما يبرر هذا التناقض الكبير

، قطعت رئيسة الجماعة هول الصدمة لتقول لهم إن الرب قد رحم العالم وأجل قيام الساعة لموعد سيحدد لاحقاً، بعد هذا التبرير السخيف انقشعت غمامة التوتر عن الجماعة وانفضت الجموع لتكمل حياتها بشكل طبيعي بانتظار الموعد القادم، عالم النفس الاجتماعي ليون فيستنغر كان أحد المنضمين لتلك الجماعة وذلك بهدف دراسة حالتها قبل وبعد تاريخ الحادثة، وقد صدر نتائج بحثه في كتابه عندما تفشل النبوءة بنظرية دعاها التنافر المعرفي الإدراكي، ويقصد فيه الحالة التي تنتاب الإنسان عندما يحصل له تعارض صارخ بين اعتقاده وإدراكه، أي بين ما يؤمن به وبين ما يدركه في الواقع.

يميل الإنسان بنزعة فطرية نحو سلوك التناسق مع المعتقدات والآراء فعندما تتعارض سلوكياتنا مع آرائنا أو معتقداتنا فإننا لا نشعر بالارتياح النفسي ويكون لدينا حافز نحو التغيير أو التحريف للواقع للتخلص من هذا الشعور، بهذه الكلمات لخص ليون فيستنغر نظريته لتكون لاحقا أحد أهم النظريات المرجعية في دراسة سلوك الأفراد والجماعات، إن النفس البشرية تتعاطى مع الكثير من المجريات والأحداث من حولها تبعاً لما تؤمن به سواء أكان معتقدها صحيحاً أم خاطئاً فهي مستعدة للبذل والتضحية والعطاء ومستعدة أيضاً للعنف والقتل والتشنيع، فقط لأنها ترسخ بسلوكياتها نظماً فكرية تؤمن بها، بل يمكن لها التضحية بالروح التي هي أغلى ما يمكن امتلاكه في سبيل معتقداتها الراسخة.

السلوكيات التي تصدر عن أتباع التيارات الفكرية أو السياسية أو العسكرية، في دفاعهم المستميت عن تياراتهم وأفكارهم إنما هو ولاء مبني على العقيدة والإيمان الصادق بتلك الأفكار
السلوكيات التي تصدر عن أتباع التيارات الفكرية أو السياسية أو العسكرية، في دفاعهم المستميت عن تياراتهم وأفكارهم إنما هو ولاء مبني على العقيدة والإيمان الصادق بتلك الأفكار
 

وفي المقابل فإن العقل البشري لا يحتمل الحيرة طويلاً ويميل إلى الاستقرار والتوازن، فإذا ما صدر له الواقع حدثاً يمكن له أن ينسف أحد معتقداته فإنه يسرع في استعادة توازنه محاولاً التشكيك بصحة المعلومات والبيانات الجديدة التي قد شكلت تعارضاً بين الراسخ والمدرَك، ويسعى جاهداً وفقاً للنظرية إلى طمث الواقع الجديد دون أي محاولة منه لمراجعة صحة معتقداته السابقة، ذلك لأنه قد ضحى وبذل الكثير في سلوكيات كانت تدور في فلك تثبيت ذاك المعتقد وعليه فإنه يحاول أن يغير من طبيعة الوقائع التي نسفت معتقده لئلا يصاب بهذا التنافر المعرفي الإدراكي.

تعتبر هذه النظرية بوابة لتفسير الكثير من السلوكيات التي تصدر عن أتباع التيارات الفكرية أو السياسية أو العسكرية، إذ إن دفاعهم المستميت عن تياراتهم وأفكارهم إنما هو ولاء مبني على العقيدة والإيمان الصادق بتلك الأفكار التي تبنتها عقولهم وجندتهم للدفاع عنها، ولكن عندما تظهر سوءة تيار أو يبان فساده أو فساد قيادته وتوجهاته، فإنك تجد أتباعه يضعون أصابعهم في آذانهم لأن ما يورده الواقع يفجر قنبلة في التنافر المعرفي الإدراكي لديهم، ويكون مدعاة وحافزاً لمحاولة تكذيب الواقع أو التشكيك بمصدره أو تحريفه، لا لأنهم لا يصدقوه، وإنما لأن رسوخ عقيدة الإيمان المتجذرة بأفكاره تأبى عليهم أن ينسفوا تاريخاً من التضحيات في سبيل تيار فاسد أو توجه خاطئ، سيما وإن كانت سلوكيات الحفاظ على تلك العقائد قد تعدت التضحية إلى الاعتداء.

والذي يسقط هذه النظرية على الواقع السوري يقرأ فيها تفسيراً لكثير من الظواهر والسلوكيات على مستوى الأفراد والجماعات، فعندما يتهم الآلاف بالردة ومحاربة الدين لمجرد اقتران أسمائهم بمفاهيم لم تؤصل حقيقتها بعد، وعندما تمنع المصطلحات حتى من مناقشة تفاصيلها لدى الأتباع، عندما تستأصل فصائل برمتها وتسحق كيانات بأكملها وتشل حركة ثورة بكل تضحياتها، عندما يصبح الإيمان منوطاً بلون الراية المرفوعة وبحجم اللحية المنسدلة وبشكل الرداء الملبوس، عندما تسفك الدماء وتحجب الحريات وتمتلأ السجون في سبيل ترسيخ عقيدة فكر تيار بعينه، عندما يغدو المؤول محكماً والمحكم قابلا للتأويل وفق شريعة مجتهدي ذاك التيار تتسائل كيف لكائنات بشرية مثلنا كانت ترزح تحت نير المستبد وقد عاشت جحيم القتل والاعتقال والفوضى والظلم أن تعيد الكرة بصفتها قاهرة لا مقهورة ظالمة لا مظلومة؟!

عندما تظهر الحقيقة جلية دون حجب وتزول عن العيون غشاوة الوهم فلن يكون سهلاً حينها التخلص من التنافر الذي يملأ التفكير ويفتح بوابة التأنيب على أصحاب الضمائر الحية

حينها تطفو على واجهة وسائل الإعلام تعليلات عائمة لتلك السلوكيات التي يمارسها أتباع ذاك التيار والتي أقل ما يمكن وصفها بأنها لا إنسانية، ويرهف الأتباع أسماعهم لانتقاء ما يؤكد صواب أفعالهم فقط غير آبهين بالالتفات لأي نداء صارخ قد يحملهم مسؤولية نتائج تجاوزاتهم، ألا وإن سلوكاً يحمل بين طياته ظلماً يحتاج إلى قوة دليل تسنده كيلا يصاب فاعله بالتناقض بين المبادئ والأفعال ولكي يكون صماماً محكماً في وجه الضمير الحي الذي يسائل النفس في كل لحظة عما تفعله؟ وإن كان السلوك محملاً بالدماء فحينها يكون بحاجة لأكثر من ذلك، إذ إنه يحتاج إلى قوة عقائدية راسخة تحثه على الفعل! أو تبرر له الفعل بعد حدوثه.

وهنا أشير إلى أن الكثير من النبوءات الكاذبة التي صدرها أصحابها لأتباعهم بلباس تحكيم الشريعة وإقامة الخلافة وسلكوا في سبيل امتدادها وسطوتها أنهاراً من الدماء قد تهاوت أمام الواقع وبان زيفها وسقطت بعد أن أسقط الدهر قناع الدين عنها ومع تتالي الوقائع التي أظهرت زور مبادئها فقد أشعلت ناراً في ذهنية أتباعها وتركتهم كالمغشي عليه يتهادون باحثين عما يكذب تلك السقطات الكبيرة لقياداتهم وما يستر زيف ما ارتكبوا في سبيل تحقيقه ممارسات استبدادية لا أخلاقية.

إن تلك الحالة التي يصل إليها الأتباع تدعى بالحالة الشاردة والتي يكون فيها التوتر محكماً قبضته والخوف والهلع سيدا الموقف فتدفع بهم إلى التعلق بأي وهم يثبت نفي الواقع الجديد، إذ إن هناك الكثير من الأتباع سليمي الفطرة صادقي النية الذين رمتهم رياح العاطفة الدينية في أحضان مشاريع محافظة على الدين في ظاهرها منافية لتعاليمه في حقيقتها فبذلوا في سبيلها كل غال ونفيس حتى اضطرت الأخ لقتال أخيه وحولت فوهات البنادق من العدو البعيد إلى العدو المحتمل الذي قد يكون سبباً بتعطيل امتداد الشريعة ووصول الإسلام إلى كل شبر بهذه الأرض وفق زعمهم ألا وإن البيئة الخصبة ترقد بين العقيدة والسلوك، بين الإيمان والحقيقة، بين المعرفة والإدراك بين الراسخ والواقع وفيها تزرع بذور التحكم بالأتباع وتسقى بوهم الحقائق وتنمو بكثرة التكرار.

ولكن عندما تظهر الحقيقة جلية دون حجب وتزول عن العيون غشاوة الوهم فلن يكون سهلاً حينها التخلص من التنافر الذي يملأ التفكير ويفتح بوابة التأنيب على أصحاب الضمائر الحية، لذلك ترى الكثير من النبوءات الكاذبة التي تتساقط هنا وهناك لا يزال أتباعها يبحثون عما يؤكد شرعيتها أو صوابها أو صدقها، ليس دفاعاً عنها وإنما للتخلص من التنافر الذي ظهر بين معارفهم ومعتقداتهم وآرائهم وبين ما عاينوه من خلال إدراكهم للواقع بشكل مختلف تماماً عما رسخ في عميق إيمانهم أو ما أثمر من مخلفات بذور قد تم زراعتها في أفكارهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.