شعار قسم مدونات

كم نقتل من أجل الحرية؟!

blogs الحرية

دخل أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد على طلابه الذين يملؤون مدرجات القاعة، وبدأ محاضرته الأولى بالسؤال الآتي: لنفرض أنك تقود شاحنة بسرعة 60 كيلو متر في الساعة، وفجأة وجدت أمامك خمسة عمال يشتغلون بصيانة الطريق، حاولت الضغط على كوابح الشاحنة لتفاديهم لكن دون جدوى، وليس أمامك سوى خيارين، إما أن تمضي في طريقك ويلقى العمال حتفهم، أو تنحرف بالشاحنة إلى خط فرعي ليس به سوى شخص واحد لا بد أن يلقى حتفه، أيهما تختار؟! أجابت أغلبية الطلاب: نختار الخط الفرعي؛ لماذا؟ لأنه ليس من الجيد أن نقتل خمسة أشخاص ما دام في وسعنا أن نفتديهم بواحد.

سألهم مرة أخرى: لنفرض أنك لم تكن سائق الشاحنة، وإنما مراقب على جسر يمر من تحته قطار، ورأيت القطار متجها صوب العمال الخمسة، ولا مجال لإنقاذهم إلا بدفع الشخص البدين الذي يقف بجوارك على الجسر إلى أسفل، لإيقاف تقدم القطار؟ السؤال: هل تفعلها وتلقي بالشخص البدين، أم تترك العمال الخمسة لمصيرهم المحتوم؟! كانت إجابة الأغلبية هذه المرة هي: لا، لا نقبل بقتل شخص بريء لإنقاذ آخرين كان قدرهم أن يموتوا. لكن الطلاب عجزوا مرة أخرى عن تبرير هذا الرأي المناقض لرأيهم السابق تبريرا مقنعاً. لماذا وافقوا على قتل شخص واحد بريء في الحالة الأولى ولم يوافقوا في الحالة الثانية؟!

لا يوجد سقف للتضحيات في سبيل الحقوق والحريات. إذ يمكن أن يفنى ملايين الأشخاص في سبيل حقوقهم المدنية والسياسية، وعلى رأسها الحرية. وهذا يعني أن قيمة الحرية أعلى من قيمة الحياة نفسها
لا يوجد سقف للتضحيات في سبيل الحقوق والحريات. إذ يمكن أن يفنى ملايين الأشخاص في سبيل حقوقهم المدنية والسياسية، وعلى رأسها الحرية. وهذا يعني أن قيمة الحرية أعلى من قيمة الحياة نفسها

هذان المثالان يكشفان عن معضلة حقيقية في فلسفة الأخلاق. تتمثل في صعوبة الكشف عن معيار إلزامي لبعض الأفعال الإنسانية. ما الذي يجعل هذا الفعل الأخلاقي ملزماً أو غير ملزم؟ ما الذي يجعلني في الحالة الأولى أفضّل قتل شخص واحد بريء فداء لخمسة آخرين، ولا يجعلني أقبل نفس النتيجة في الحالة الثانية؟! مهما تكن الإجابة فإنها لن تكون واضحة تماما.

 

وقضايا الأخلاق هذه توقف أمامها الفلاسفة الغربيون وناقشوها بعمق وتفصيل شديدين. واشتهر فيها مذهبان أخلاقيان، إحداهما يؤمن بوجود قيم عليا عابرة للزمان والمكان، هي التي تحدد معايير الفعل الأخلاقي، ويسمى بالمذهب المثالي. والآخر يؤمن بأن القيم نسبية ومحكومة بما تحققه من منفعة للناس، وشعارها: أكبر قدر من المنفعة لأكبر قدر من الناس. ويسمى بمذهب المنفعة، أو المذهب الذرائعي / البرجماتي.

من الواضح أن المذهب المثالي، لا يقيم وزنا للكم في معيارية الأخلاق، في حين أن البرجماتي يجعل الكم معياراً أساسياً في تقييم الفعل الأخلاقي. وهنا يكمن جوهر المشكلة الفلسفية. لأننا لا نستطيع أن نتجاهل فكرة الكم تماماً، ولا نستطيع أن نجعلها معياراً أساسياً لتقييم الأفعال الأخلاقية. كما أننا لا نستطيع أيضا الوقوف في منتصف الطريق بينهما. لأن منتصف الطريق هنا يعني غياب المعيار الواضح في مسألة لا تقبل التضبيب واللبس. وهذا الإشكال يتضح أكثر في حالة الحرب الشرعية. حيث ستنشأ أسئلة من مثل: إذا كانت الحرب مشروعة وضرورية للدفاع عن الحقوق والحريات، فهل هناك سقف محدد لعدد الضحايا يجب أن تتوقف عنده الحرب وتعلن البقية استسلامها إذا لم تتمكن من النصر؟!

هل يعد الشعور بالحرية إحدى الملذات التي تحقق السعادة الإنسانية لهذا المجتمع؟ وهل الشعور بلذة الحرية أهم من الشعور بلذة الحياة ذاتها؟

وفقا للمذهب المثالي، فإن الإجابة لا بد أن تكون: لا، لا يوجد سقف للتضحيات في سبيل الحقوق والحريات. إذ يمكن أن يفنى ملايين الأشخاص في سبيل حقوقهم المدنية والسياسية، وعلى رأسها الحرية. وهذا يعني أن قيمة الحرية في هذا المذهب أعلى من قيمة الحياة نفسها. ربما لأن الحرية، من وجهة نظرهم، هي التي تمنح الحياة معناها. وهذا جواب واضح وشجاع، ومتسق مع المبدأ الذي قعدوه.

أما وفقا للمذهب البرجماتي، فإن الجواب سيكون صعبا للغاية. لأنه سيضطر لإجراء حسابات معقدة، بعضها نظري وبعضها الآخر عملي، ترجح له جانب المنفعة في الأمر. ويقصد بالمنفعة طبعا تحقيق الشعور باللذة والسعادة، فذلك هو معيار العمل الخيّر. وذلك هو معنى الحياة في هذا المذهب. وسيصبح مطالباً بالإجابة على أسئلة كثيرة، منها: هل يعد الشعور بالحرية إحدى الملذات التي تحقق السعادة الإنسانية لهذا المجتمع؟ وهل الشعور بلذة الحرية أهم من الشعور بلذة الحياة ذاتها عنده؟ أم أن لذة الحرية هي نفسها لذة الحياة؟ أم أن لذائذ الحياة الأخرى تغني عن لذة الشعور بالحرية؟

هذه الأسئلة وغيرها ستحتاج لإجابات إحصائية ميدانية لا تأملية على الطريقة المثالية. وهذا إذا تحقق سيكون هو ذاته عملا مثاليا بامتياز! لأن الخبرة الواقعية تقول إن قرارات الحرب والسلم يتم البت فيها عادة من قبل الساسة ونواب الشعب وأصحاب المصالح المؤثرين، لا من قبل الفلاسفة ومراكز الدراسات والبحوث. أي أن هذه الأسئلة لن تطرح على جميع المواطنين المعنيين كما تقتضي قواعد البرجماتية. وسيكون من الصعب في هذه الحالة على معتنقي هذا المذهب التدليل على صحة موقفهم من النتيجة بشكل واضح. والأسوأ من ذلك أن تخوض الأمة حرباً بمثل هذا الموقف الفلسفي / الأخلاقي الغامض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.