شعار قسم مدونات

بلفور بين الاعترافات والتفاخر

blogs التوراه

"سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر!"

كلمات نطقت بها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي دون خجل خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني وأضافت أننا نشعر بالفخر للدور الحيوي الذي لعبناه في إقامة دولة (إسرائيل)، واصفة تصريح بلفور بالرسالة الأهم في التاريخ. لا شك أن هذا الخطاب يكشف عن ذاكرة جمعية وفردية لا يمكن فصلها عن حقيقة ذات دلالات شمولية، وربما لا تحتاج إلى موهبة تأويلية للوصول إلى الأبعاد والمرامي الكامنة في كلمات استفزازية أقرب إلى التفاخر بالوقاحة.

يقول بروفيسور التاريخ اليهودي ماير فيرتي في تحليله عن صناع تصريح بلفور في بحث له عام 1970: "بريطانيا أرادت واختارت فلسطين بقوة لمصالحها الخاصة وليست الصهيونية من جلبتهم إلى هذا البلد،، لو لم يكن الصهاينة موجودين في تلك الأيام، لكانت بريطانيا قد اخترعتهم!".

وقد اعترف وايزمن في وقت لاحق بأن بريطانيا هي التي حركت الصهيونية حين قال: "أن الحكومة البريطانية هي التي كانت تشجعنا في ذلك الوقت 1917 – 1918، وهي التي كانت تشجعنا على أن يكون الانتداب لبريطانيا العظمى"، ويضيف: "لست أبالغ في هذا، بل وهم الذين شجعونا على أن نجلب شعبنا وشجعونا على إخراج أفضل ما لدينا لأننا وثقنا بكلمة بريطانيا وهي بالنسبة لنا الصخرة التي سنبني عليها فلسطين".

واحدة من مسودات تصريح بلفور التي كتبتها الحركة الصهيونية بخط اليد على ورق فندق إمبريال في لندن، عرضت في المزاد العلني في نيويورك عام 2005 بقيمة تجاوزت 800 ألف دولار
واحدة من مسودات تصريح بلفور التي كتبتها الحركة الصهيونية بخط اليد على ورق فندق إمبريال في لندن، عرضت في المزاد العلني في نيويورك عام 2005 بقيمة تجاوزت 800 ألف دولار
 

لقد استغرق أمر الصياغة للتصريح عدة أسابيع من المفاوضات من قبل لجنة من الصهاينة واستشاروا أيضا البريطانيين في الحكومة ومن أهمهم مارك سايكس ورونالد جراهام، حيث ساهم كلاهما في صياغة المسودة قبل تقديمها إلى بلفور رسميا في 18يوليو 1917، كانت نصوص الحركة الصهيونية تذكر كلمات مثل: "المنظمة الصهيونية، الاستعمار، والحكم الذاتي للصهاينة تحت الانتداب" وهي كلمات اختفت مع التعديلات البريطانية.

من المفارقات أن واحدة من مسودات تصريح بلفور التي كتبتها الحركة الصهيونية بخط اليد على ورق فندق إمبريال في لندن، عرضت في المزاد العلني في نيويورك عام 2005 بقيمة تجاوزت 800 ألف دولار.

نص الرسالة الرسمية 
"من اللورد روتشيلد إلى آرثر بلفور في 18 يوليو 1917 مؤكدا أنني أخيرا باستطاعتي إرسال النص الذي طلبته وأنه إن أمكن للحكومة أن ترسل لي رسالة ضمن الخطوط أدناه بعد الموافقة من الحكومة ومنك، فإنني سأسلمها للاتحاد الصهيوني"، كما جاء في مقدمة الرسالة  أن المعارضين للصهيونية من اليهود البريطانيين خصوصا قد بدأوا حملة واسعة ضد وطن قومي لليهود الصهاينة في فلسطين.

والجدير بالذكر أن الإشارة الأخيرة حول المعارضة اليهودية للصهيونية قبل إصدار التصريح، هو أمر تحاول الحركة الصهيونية دائما طمسه منذ تأسيسها وحتى اليوم، فاليهود الذين يقفون ضد الصهيونية بالمرصاد يضعون الصهيونية في مأزق يصعب عليها الخلاص منه.

كتب فيليب ماجنس:
كتب فيليب ماجنس: "اليهود لا يجمعهم إلا الدين، ليس لديهم آمال قومية تجاه أرض (إسرائيل) وبالتالي إن فكرة وطن قومي لليهود غير مرغوبة وغير دقيقة"
 

وقد عدّل بلفور وعدد من المساعدين البريطانيين للويد جورج نص التصريح وتم مناقشته مع الحركة الصهيونية قبل عرضه أول مرة على مجلس الوزراء البريطاني ومن الذين ثبت مساهمتهم في إدارة لويد جورج في تحرير نص التصريح السياسي ألفرد ميلنر الذن كان الساعد الأيمن للويد جورج خلال 1916 و 1918، والسياسي البريطاني الاستخباراتي والصحفي ليو آميري المولود في الهند لأم يهودية والذي كان يعمل في سكر تاريا لويد جورج وهو من شجّع الصهيوني زئيف جابوتنسكي على تأسيس فيلق يهودي مع الجيش البريطاني المتجه إلى فلسطين عام 1917، كما تم إرسال عدد من المسودات عبر قنوات مكتب الحرب البريطاني إلى أمريكا وبالتحديد إلى اللجنة السياسية الصهيونية الأمريكية وتم الاستفادة من ملاحظاتهم.

كتب ناحوم سوكولوف في كتابه تاريخ الصهيونية أنه أثناء صياغة تصريح بلفور، كل فكرة تولد في لندن كانت تختبر من قبل الحركة الصهيونية في أمريكا وكل مقترح من أمريكا يلقى اهتماما شديدا في لندن، لذلك لخص القيادي الصهيوني ستيفن وايس أن تأليف تصريح بلفور لم يكن "فرديا بل جماعياً".

وعرضت مسودات التصريح على حكومة الحرب البريطانية آنذاك في أربعة اجتماعات عقدت خلال سبتمبر وأكتوبر 1917 وقرأ آرثر بلفور على مسامع الحاضرين في أحد الاجتماعات رسالة كامبون أي رسالة الخارجية الفرنسية للصهيونية التي صدرت في يونيو.

تم تجميع الملاحظات في داخل وزارة الخارجية البريطانية، لكن الصوت غير الصهيوني لم يشمل ثقلا حقيقيا في تغيير وجهة نظر بريطانيا حول إصدار التصريح وجوهره

كان هناك اعتراضات قوية من قادة يهود بريطانيين معارضين للصهيونية على فكرة ونص التصريح، ثم التعبير عنها في جميع الاجتماعات التي نوقش فيها نص التصريح. وفي 6 أكتوبر أرسل نص تصريح بلفور المقترح لتسعة يهود، ستة صهاينة منهم صموئيل ووايزمن وسوكولو وروتشيلد أي من شاركوا في صياغة التصريح، وثلاثة يهود ضد الصهيونية لطلب ملاحظاتهم مكتوبة.

كتب  اليهود غير الصهاينة والمعارضون الصهيونية بكل جرأة، منهم الرابي والسياسي والأكاديمي اليهودي البريطاني والقيادي في مجلس اليهود البريطانيين فيليب ماجنس الذي كتب رسالة طويلة جاء فيها:

"أن اليهود لا يجمعهم إلا الدين، ليس لديهم آمال قومية تجاه أرض (إسرائيل) وبالتالي إن فكرة وطن قومي لليهود غير مرغوبة وغير دقيقة".

وتم تجميع الملاحظات في داخل وزارة الخارجية البريطانية، لكن الصوت غير الصهيوني لم يشمل ثقلا حقيقيا في تغيير وجهة نظر بريطانيا حول إصدار التصريح وجوهره، كما تم طلب مشورة الرئيس الأمريكي مرتين على مسودات نص التصريح خلال شهري سبتمبر وأكتوبر 1917، في المرة الأولى قال الرئيس الأمريكي: أن الوقت ليس ناضجاً للإعلان، ثم وافق عليه في المرة الثانية طالباً أن تبقى معلومة اطلاعه على نص التصريح "سرية لا علنية"!. إلاّ أن بلفور أعلم حكومة الحرب البريطانية في الاجتماع أن الرئيس الأمريكي مؤيد للتصريح وأنه أرسل برقية بموافقته على نص تصريح بلفور يوم 17 أكتوبر 1917 وتم تدوين ذلك في محضر الاجتماع.

وبالانتباه إلى تفصيلات تصريح بلفور والممارسات الخطابية المتتالية. يمكن للمرء أن يبين تركيب الاتصال السياسي وكيف يتحقق بالفعل في سياقات سياسية بعينها، كالحقيقة والحالة التي عبرت عنها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بكل وقاحة ودون خجل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.