شعار قسم مدونات

في جوف الموت.. مات الحلم

مدونات - فلسطين طفلة غزة حزن

في ذلك الشّق الثاني من الوطن، في ذلك الشطر البعيد جدًا، في الضفة الغربية، حيث عمي الذي مات خلف الحدود، الذي لا أجد أصدق من أن أقول إنه مات مغتربًا في وطنه! لعلّك تتساءل الآن كيف تكون الغربة في الوطن، هذه ضريبة أن تكون فلسطينيًا وهذا حملك الثقيل! هذا حالنا كفلسطينيين، كمعبر إيرز، كانتفاضة، كسلك شائك يفصل بين شقيّ وطن عزيز، كأهل غزة وأهل ضفة.

 

عمي الذي أدمنته حبًا وتشربت عطفه وحنانه كما لو كان قريب الجسد، مات.. مات في جنين حيث المكان البعيد.. البعيد جدًا كأنه لا يرى ولا يصله أحد! مات دون أن أراه ولو لمرة واحدة فقط، دون أن تلمسه يداي، دون أن يمسّد بيديه على شعري، دون أن أحادثه وجهًا لوجه وأطرب على موسيقا صوته الحاني، مات دون أعيشه ويعيشني !، مات هكذا خلف ذلك الحاجز اللعين.

 

أيعقلُ كيف بجزء من الثانية تهشم حلمي – الذي بنيته كثيرًا – برؤيتك؟ أيعقلُ كيف يقف القدر ساخرًا من حلمي الصغير؟ أيعقلُ أن يحرمني من أن تجمع بيني وبينك ذكرى؟ ذكرى أخلدها بقلبي فلا تزول إلا مع زوال النبض، لا عجب، فوطن تفرّقك فيه الحياة قبل الموت، ويكون فيه الموت غربة وفجيعة مضاعفة، لا عجب أن يسلبك حلم اللقيا.

 

عمي، أخبرني، هل لي أن أحتسب أنّ خطوتي الأولى في بيتك وانا ابنة الأشهر الثمانية، ذكرى تجمعني بك؟ أنّ قدماي الصغيرتان وطئت مكانًا وطأته أنت؟ هل أعدّه من حسن حظي؟

 

مرّ عام عليك يا عمي وجسدك قد واراه التراب، أصبحت ذكرى، ذكرى تخزُّ قلبي، تذكرني بحلمي برؤيتك الذي ذهب هباء منثورًا، حلمتُ كثيرًا يا عمي بلحظة اللقاء وكيف سأخبرك عن أشواقي وحبي
مرّ عام عليك يا عمي وجسدك قد واراه التراب، أصبحت ذكرى، ذكرى تخزُّ قلبي، تذكرني بحلمي برؤيتك الذي ذهب هباء منثورًا، حلمتُ كثيرًا يا عمي بلحظة اللقاء وكيف سأخبرك عن أشواقي وحبي
 

عمي، يسألني من حولي عن سر حبي لك وكيف أحببتك برغم تلك الحواجز بيننا؟ ذاك الحاجز ما زادني إلا ضراوة في العشق لك، علمني أن الحب للبعيد عن العين يكون أضعافًا مضاعفة، أرباب الحدود لم يعلموا أن الحدود تمنع أجسادًا من اللقيا، ولكن لا حدود للأرواح وشقائقها، لم يعلموا أن الله يودع في قلوبنا الحب كنسمة لا تأبه لأي حاجز، يعشق القلب كل بعيد، فكيف إن كان البعيد أنت؟! لو سمعوا صوتك الدافئ، لو رأوا صورتك التي أحفظها معي وعيناك الخضراوين تقطران حبًا وحنانًا، لو أن لهم أبا كأبي كان يخبرني تفاصيل حياتهم معك وذكرياتهم في أحراش جنين أو بحر غزة، لكانوا عشقوك مثلما عشقتْ، لخجلوا على أنفسهم من أن يسألوني سؤالا ساذجًا كهذا!

 

لا زلتُ اذكر هول الصدمة الذي أحاط بنا حين تلقينا الخبر، لا زلت أذكر قسمات وجوهنا، لا زلت أذكر يا عمي وجه أخيك حين سمع الخبر!، أذكره حين نادى باسم أمي وأتبعه "أبو وائل مات" بكل ما أوتى من صدمة وحزن في آن، أذكر دموعي التي انحبست في محاجرها، ثم مع أول حرف رثاء كتبته فيك بعد ساعات من موتك، انهمرت كالشلال، كأن لم أبكِ من ذي قبل !، أذكر كيف قام أبي وأعمامي مسرعين في التشاور بمراسم العزاء، بعد أن لم يعد هناك مجال للإنكار والتكذيب، بعد أن فرض علينا التصديق بالواقع والإيمان بالقدر، لا تستغربوا أو تستهجنوا مشاورتهم في بيت العزاء، فأن تكون من شعب دموي، قد أصبح الموت في حياته وجوده ككسرة الخبز !

 

مرّ عام عليك يا عمي وجسدك قد واراه التراب، أصبحت ذكرى، ذكرى تخزُّ قلبي، تذكرني بحلمي برؤيتك الذي ذهب هباء منثورًا، ذهب كأنما لم يكن له ببيت الأحلام يومًا مكان، حلمتُ كثيرًا يا عمي بلحظة اللقاء وكيف سأخبرك عن أشواقي وحبي ولكني إلى الآن أتساءل، كيف لم أتنبّه لخيالي حين شطّ في أحلامه؟ ألم أكن أرى الواقع الأليم؟ أم أن أبيات تميم قد صدقت فيّ حين قال "أحسبت أن زيارة ستزيح عن وجه المدينة يا بنى حجاب واقعها السميك لكي ترى فيها هواك"؟ هل حقا حسبت أن خطوتي الأولى في جنين ستشفع لي بزيارة أخرى؟ ستزيح حجاب الواقع وقسوة الحاجز؟ أم أنه ذاك الحب الذي يوهمنا أن الناس فيه يحظون بالتلاقي؟!

 

مر عام وأنا أبكيك ربما بقلبي أكثر من عيني، أبكيك بقدر المسافة بيننا، بقدر الحب، الاشتياق ولهفة اللقاء.

مر عام على موتك الذي مضغ آمالي ورماها!

يا عمي لم يجمعني الله بك في دنياه، فعساه في جنته يجمعنا.. عساه عساه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.