كثير من الآباء لا يعني أبناؤهم لهم سوى أنهم عدد إضافي في المنزل وأعضاء جدد متطفلون متطلبون يصدعون الرأس بالطلبات والاحتياجات التي تنتهي ويملأون البيت ضجيجًا وازعاجًا، الموضوع ليس له أي علاقة بالوضع الاقتصادي للأسرة بقدر ما له علاقة بالوضع النفسي، فكم من عائلة ثرية فاشلة في تربية الأبناء، كم أشفق على الآباء الذي يعتقدون أنهم يؤدون أدوارهم على أكمل وجه حين لا يقومون بشيء إلا بالانفاق المالي السخي على أبنائهم دون أي دعم نفسي وإنساني لهم، ثم يتساءلون عن السبب إذا زلزل أركان أسرهم التفكك الأسري وجعلها حطامًا تذروه الرياح .
أن تكون أبًا صالحًا ليس شيئًا صعبًا أو معقدًا، بكل بساطة إن هناك شروط إذا توفرت فيك فأنت مؤهل لأن تكون أبًا صالحًا.
أولًا: التضحية، نعم التضحية بأي شيء وفي أي وقت، سيبدأ معك موضوع التضحية هذا مع أول يوم، مبدئيًا سوف تنسى النوم ليلًا من أجل راحة طفلك ولن يكون ذلك في صالحك إلا لو كنت كاتبًا فحينها سوف تجد منبهًا بشريًا مجانيًا لا مهرب معه من اليقظة، لكنك مع مرور الوقت ستعرف التضحية الحقيقية وسوف تتخلى عن أشياء كثيرة ثقيلة في ميزان الحياة أخفها نضارةُ وجهك وسواد شعرك، يحضرني هنا حديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام " الولد مبخلة مجبنة "، نعم سوف تضحي بحريتك المطلقة بالتصرف الحر بمالك وسوف تتخلى أيضًا عن الكثير من شجاعتك في سبيل سلامة أبنائك وسلامتك لأنك مسؤول عن حاجاتهم الأساسية التي يقترن توفرها بوجودك.
أمر القرآن الكريم في عدة مواضع ببر الوالدين وخفض جناح الذل لهما من الرحمة ومصاحبتهما بالمعروف مهما بدر منهما، أما فطرة الأبوة والأمومة فلم تكن بحاجة للتذكير |
ثانيًا: الأمانة، إنها لمسؤولية عظيمة أن تكون أبًا، الموضوع فيه حساب وحسنات وسيئات وانطباعات خالدة، أنت مسؤول تمامًا عن هذا الطفل الذي جلبته إلى الدنيا وكتبت عليه اسمك ولقبك وأورثته صفاتك وملامحك وأدخلته إلى حلبة المصارعة الكبرى، إن أي انجاز يحققه الابن في الحقيقة هو انجاز أبيه وأمه وأي فتنة تكسر قلبه فهي جراء استهتار والديه وعدم حمايتهم له من غواياتها، وفي الأمانة يدخل عنصر جديد وهو أن يكون لك عدة أبناء وقتها سوف يتجلى هذا الشرط بكل وضوح، والسؤال هنا هل سوف تكون عادلًا بين كل أبنائك بالمال والمشاعر الظاهرة ؟ إذا فعلت فقد حققت شرطًا مهما من شروط الأب الصالح.
ثالثًا: التفهم، هذا الشرط بالذات بالرغم من أهميته البالغة إلا أنه ينقص الكثير الكثير من الآباء والأمهات، تفهم الفئات العمرية والفروق العقلية والنفسية، تفهم طموحات الأبناء وقدراتهم، تفهم رؤيتهم للأحوال المحيطة، تفهم نظرتهم نحو ظروف أصدقائهم وجيرانهم وأقاربهم، تفهم سنة الحياة ومسيرها الأزلي وتقدمها السريع الذي لا ينظر إلى الوراء، تفهم روح العصر والعمل على إعداد الأبناء وفقًا لما يعزز من إمكانيات نجاحهم مستقبلًا، وتفهم أن جموحَ الولد وعصيانَه ليس إلا نتيجةً طبيعية لقسوة الأب واستعلائه.
لقد انضممتُ إلى صف الآباء ولن أنحاز عنه أبدًا، لكن على كل أب في هذه الدنيا أن يفهم أنه السبب الرئيسي في كل ما سوف يؤول حال ابنه إليه، فإن رباه على عزة النفس لن يحني هامته لأحد، وإن أنشأه على الشهامة لن يخذل محتاجا وهو قادر على مساعدته، وإن زرع فيه الصدق لن يكذب، وإن حضه على حفظ القرآن حفظه، وإن شجعه على الرياضة صح جسمه وعقله، لكل شيء في الحياة سبب فلا رد للفعل إلا بوجود الفعل ولا دخان إلا بوجود النار.
أمر القرآن الكريم في عدة مواضع ببر الوالدين وخفض جناح الذل لهما من الرحمة ومصاحبتهما بالمعروف مهما بدر منهما، أما فطرة الأبوة والأمومة فلم تكن بحاجة للتذكير، وهنا يجب أن نقول أن الكثير من الآباء يضرون أبناءَهم بحسن نية، للأسف بسبب اتباعهم الجهل والعادات الاجتماعية المقيتة، فقد يحرم ابنه من الفتاة التي يعشق بسبب المجتمع، وقد يحرمه من تخصصه الجامعي لأنه لن يراه ناجحا إلا لو صار طبيبًا أو مهندسًا، وقد يحرمه من السفر للتعليم والتجربة لأنه يخاف عليه من فساد الخلق وحديث الناس، على الآباء أن يفهموا أن أبناءهم أمانة ثقيلة في أعناقهم وأنهم مسؤولون عنهم يوم الحساب، وعلى الأبناء أن يفهموا أن بر الوالدين من الإيمان ودائمًا ما اقترن في القرآن بعبادة الله وتوحيده، ومن زرع في ابنه اليوم خلُقًا فإنه حاصدُه غدًا فكما قال المعري العظيم:
وينشأ ناشئُ الفتيان منا، على ما كان عوّدهُ أبوهُ
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.