شعار قسم مدونات

عن الذين لم يحقدوا على بلادهم!

blogs كرة القدم المصرية

برغم القهر والإرهاب والتشريد والمحن

برغم محاكم التفتيش قد نبشت من العفن

برغم نذالة الجبناء والدخلاء في وطني

وأرتالٍ من العملاء تحني الهام للوثن

سأحيا رافعًا رأسي، ولو سُربلتُ في الكفنِ!

برغمِ القيد والسجانِ لم أحقد على بلدي!

 

حين سمعتُ أغنية "برغم القهر والإرهاب"، لأوّل مرة، توقّفتُ طويلًا عند قول الشاعر: "لم أحقد على بلدي!". هل يحقدُ امرؤٌ على بلده! هل يمكنُ أن يتسبب القيدُ والسجان في مثل هذا! هل تردد في صدر الرجل حبُّ بلده وبغضها، ثم اختار عن وعيٍ حُبّها! لقد كان المعنى جديدًا عليّ جدًّا وغريبًا أكثر.

 

بعد اغتيال الربيع تكاثر عربُ إسطنبول، تقاطروا من بلدانهم المنكوبة، ووجدوا فيها حضنًا دافئًا، رُبع غُربة كما ذكر لي أحدُ الأصدقاء المقيمين بإسكندنافيا، هُنا في إسطنبول عرفنا لأوّل مرّة معنى القومية العربية، عرفناهُ عمليًّا، وأدركنا قيمة العربية لغةً تجمعُنا. العربُ هنا يجمعهم كلُّ شيء، لا تفرّقهم إلا وثائقهم الرسمية. نجلسُ بين فينة وأخرى، ونلتقي على هامش نشاطٍ أو فعالية، فنستشعرُ معنى وهمية الحدود الذي طالما سمعناه تنظيرًا، ونتكلم كثيرًا عن بلادنا.

 

هؤلاء الذين لم تهبهم بلادهم أيًا من ضروريات الحياة ورغم ذلك تلمسُ لديهم حُبًّا عجيبًا لبلادهم، حبًّا بغير شروط، وبلا مقابل
هؤلاء الذين لم تهبهم بلادهم أيًا من ضروريات الحياة ورغم ذلك تلمسُ لديهم حُبًّا عجيبًا لبلادهم، حبًّا بغير شروط، وبلا مقابل
 

كثيرٌ من هؤلاء لم ير في بلده ولا منها سرورًا قط، قُتل فيها أعزّ أحبابه، واعتقل خُلّص أصحابه، وطورد هو حتى فرّ لا يلوي على شيء، نُفي منها نفيًا، وخرج مضطرًا مجبرًا، وآخرُ عهده بها رقصُ كثيرٍ من أهل البلد على دمه ومأساته.

 

هؤلاء الذين لم تهبهم بلادهم تعليمًا ولا علاجًا ولا عملًا ولا عدالةً ولا أيًا من ضروريات الحياة الكريمة، بل ابتلوا فيها بالجهل والأمية والمرض والأطعمة المسرطنة والبطالة والظلم المركّب، ثم لما مدّوا إليها أيديهم لينهضوا بها جزتهم بما صنعوا القتل والاعتقال والنفي والتشويه والنبذ! لقد قتلت البلدُ بعضًا منهم، وقضت على أحلامهم جميعًا! تلمسُ لدى هؤلاء حُبًّا عجيبًا لبلادهم، حُبًّا مثاليًّا مكتملًا، حُبًّا لم يزده الوُدّ العابر، ولا أنقصه الجفاءُ المقيم، حبًّا بغير شروط، وبلا مقابل!

 

كانت مصرُ تستعدُّ لمعركتها الكروية، فُرصةٌ مفاجئةٌ للتأهل إلى كأس العالم، لفرقةٍ بالغة التواضع، فرصةٌ لم يحظ بها نجومٌ خطفوا الأضواء، واحتلّوا القلوب للأبد، رزقٌ سيق إلى البلد في غفلة من الزمن كما يقولون، ترقّبه أكثرُ الناس وانتظروه، لكنه أربك قلوب كثيرين أيضًا. حُبّ المصريين -شبه الفطريّ- لبلادهم يخفقُ بقلوبهم نحو التأهل، وكراهيتهم الاستغلال السياسيّ المحتوم للإنجاز يخلق فيها ترددًا كبيرًا.

 

ما أسوأ أن يُسجّل التاريخ إنجازًا صُدفيًّا كهذا في رصيد أسوأ نظامٍ بوليسيّ عرفته مصر، نظام لن يدّخر جُهدًا في استغلال الإنجاز الذي لم يصنعه في تغطية كل جُرمٍ أو فشل يصنعه!

لستُ ممّن يقيسون مُستوى الانتماء بتشجيع الكُرة، أعرفُ بعض من مات في سبيل بلده لم يحضر لها موقعةً كرويّة قط، وأعرفُ بعضهم كره الفوز حُبًّا في البلد، وأحزنه مرأى احتفال البؤساء المنكوبين أكثر مما أفرحه، إذ تفكّر في المشهد أكثر من اللازم، لكنني أتحدّثُ عن الشباب المهتمين بالكُرة، عن الذين تمنّوا أن يروا مصر في المونديال مرّةً واحدة، وانتظروا ذلك منذ وعوا الدنيا وعرفوا الكرة. كثيرٌ من هؤلاء انشطر قلبُه نصفين ليلة المباراة، واضطرب موقفهُ تبعًا لذلك أشدّ الاضطراب.

 

يريدُ لبلده هذه الإنجاز، لكنه يتذكّرُ أن الرياضة مسيّسة، وأنّ رؤساء بعض الأندية العريقة أتوا من أقذر المواقع السياسية. يريد هذه الفرحة، لكنه يستحضرُ إهمال المواهب الرياضية من قبل الدولة، وتسببها في فشلها أو هجرتها، ويوم تشقُّ في الصخر وتنجح تسارع إلى الاحتفال وسرقة الإنجاز.

 

لا يغيبُ عنه ملاحقة الدولة لكلّ من لا يحني هامته في الوسط الرياضيّ، ويتذكّرُ الشابّ الطموح أحمد عبد الظاهر حين ذُبح رياضيًّا بكل معنى الكلمة، أوقف وعوقب وأبعد من فريقه وفُعل به الأفاعيل لأنه رفع شارة الحرية والإنسانية في وجه القتلة، وليس بعيدًا منه أحمد الميرغني إذ أجلسوه في محاكمة على الهواء، وتعرّض لكل أنواع الإهانة والإذلال والشتائم العنصرية لأنه غامر ذات مرّة بانتقاد لطيف! ثم كيف ينسى اضطهاد صانع الفرح، آسر قلوب المصريين والعرب محمّد أبو تريكة، وتعامل الدولة النذل معه! هل يستطيع من يستحضرُ هذا كلّه أن يفصل بين السياسة والرياضة، ثم يقنع مشاعره بذلك الفصل!

 

أضف فوق ذلك سنةً مقبلةً من استغلال الإنجاز/الصدفة في تأجيج المشاعر الوطنية في قلوب "الغلابى"، وإشغالهم عن كل ما تتعرّضُ له البلد من الظلم والقمع والقتل والسجن، والفساد والسرقة والنهب، والفشل في كل مجال! كلّ من سيفتح فمه في شيء من هذا في الأيام المقبلة سيُقال له: لكننا تأهلنا إلى كأس العالم!

 undefined

ما أسوأ أن يُسجّل التاريخ إنجازًا صُدفيًّا كهذا في رصيد أسوأ نظامٍ بوليسيّ عرفته مصر، نظام لن يدّخر جُهدًا في استغلال الإنجاز الذي لم يصنعه في تغطية كل جُرمٍ أو فشل يصنعه!

 

ثمة ما نخافُ منه أيضًا مع اقتراب فرقٍ عربيّة أخرى من التأهل، نخشى أن يلتقي الإخوة في ساحة المعركة/المباراة، ولنا في ذلك تجربةٌ سيئة في تصفيات التأهل، فكيف إذا التقى الناسُ في المونديال نفسه! علينا من الآن أن نسأل الله السلامة! وأن يلطف بالشعوب ويجنّبها جرائر أنظمتها وإعلامييها وغوغائها.

 

أيًّا يكن مستقبلُ الكرة المصرية والعربية في مونديال روسيا فإنّ الحدث العظيم أحيا في قلبي هذه المعاني، وهي مناسبةٌ لإلقاء التحيّة على الذين لم يحقدوا على بلادهم، على الذين أحبّوها رغم كل ما أصابهم، وما زالوا يحلمون بيوم نهضتها وعودتهم، سواءً تابعوا نشاطها الرياضيّ أم أهملوه، شجّعوا منتخبهم أم تجاهلوه، لهم جميعًا ألفُ تحيّة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.