شعار قسم مدونات

كيف نظر الإسلام إلى العقل؟

مدونات - تاريخ علماء عالم شيخ قراءة

يُمثّلُ العقلُ حجرَ الأساسِ للمعرفةِ الإنسانيّة، وكانَ ذلكَ سببًا ليُجعلَ من محاورِ المناظرةِ والجدالِ لتحديدِ مفهومهِ ووظيفتهِ. تفاعلَ حولهُ النُّظّارُ من الفلاسفةِ وعلماءُ المُسلمينَ وغيرهم، فتعدّدت الأقوالُ والتعاريفُ من حيثُ الشّكلِ والمضمونِ. ونحنُ في هذه التدوينة سنتبيّنُ مفهومَ العقلِ ومراتبهُ وعلاقتهُ بالشّريعة من مفهومٍ إسلاميٍّ، لا من حيثُ المُقارنةِ بينَ المذاهبِ والأصولِ.

 

العقلُ في اللغة؛ وهو من مصدرِ عَقَلَ بمعنى حَبَسَ، وسُمّي كذلكَ لأنّهُ يعقلُ صاحبهُ عن التّورّطِ في المهالكِ والآثام، وقيلَ هو التّمييزُ والعلمُ. فهوَ على الوضعِ اللّغويِّ، إذن، مُجرَّدُ الحبسِ عن المفاسدِ المُقدَّرةِ بحسبها، لا أنّهُ جوهرٌ أو عرضٌ أو معنى قائمٌ كما هو في اصطلاحِ النّاسِ.

  

فما هو العقلُ؟


وردَ العقلُ في القرآنِ الكريمِ بعدّةِ ألفاظٍ: النُّهى، اللُّبّ، القلبُ، الحِجرُ، الفكر.. وكلّها ألفاظٌ تُفيدُ معاني التّدبّرِ والفهمِ. كما ورد في السُّنّةِ النّبويّة الشّريفةِ لفظُ العقلِ كثيرًا، كما في سنن النّسائي من حديثِ سهلةَ بنت سُهيل، رضي الله عنها، قالت: "إنّ سَالِما يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَقَدْ عَقَلَ مَا يَعْقِلُ الرّجَالُ، وعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرّجَالُ.." (الحديث رقم 3270)، وما في أبي داود من أنّ عبد الله بن عمرو يعلّمُ مَنْ عقل من بنيه حديثَ الاستعاذةِ بكلماتِ الله، ومَنْ لم يعقل كتبهُ فعلَّقه عليهِ" (الحديث رقم 3395)، وما في ابن ماجة من حديثِ رسولِ الله، صلى الله عليه وسلّم: "لا عقل كالتدبير.." (الحديث رقم 4208)، وغيرها كثير، اقتصرنا على ذكرِ بعضها فقط للحاجة، وقد وردَ غيرُ ذلكَ أيضًا في السُّنّةِ بألفاظِ: الفقهِ والقلبِ والبصر ..وكلُّ هذه الألفاظِ تؤكد أن العقلَ، في الكتابِ والسّنّةِ، قوّةُ الإدراكِ والفهمِ والفقهِ والتفكيرِ السليم.
ويُمكنُنا تقسيمُ الإدراكِ هنا إلى قسمين: الحسّي والعقلي.

  

والحسّيُ وهو ما يُدركُ بالأعضاءِ الظّاهرةِ (الحواسّ الخمسة)، وهو نوعان: مباشرٌ بلا واسطة، وغيرُ مباشر بواسطةٍ كالمرآةِ وصفحةِ الماءِ. وما يُدرَكُ بالوِجدانِ (الحواسّ الباطنة) كالجوعِ والشّبعِ والحُزن والفرح والخيال والوهم.. وفي الحسيِّ يشتركُ الإنسانُ مع الحيوانِ.

 

وإنّما يُفارقهُ في الإدراكِ العقليّ الذي يُدركُ المعاني (القضايا) الكُليّةكالخيرِ والشّر والحقَّ والباطل.. ويُفاضَلُ بينَ الحواسِّ من حيثُ تحصيلِ العِلم، فأفضلُهَا ثلاثة: السّمعُ والبصرُ والقلبُ؛ قالَ تعالى "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل 78) . فالسّمعُ والبصرُ وسائطُ لتحصيلِ المعرفةِ من المحسوسِ (الماديّ)، وأمّا القلبُ (الفؤادُ) فهو محلُّ النَّظَرِ والفكرِ المُتحصَّلِ من عالمِ المادّةِ عبرَ وساطةِ السّمعِ والبصرِ، كما بيّنَ ذلكَ تعالى في قوله "لهم قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا" (الأعراف 179) .

 

العقلُ وسيلةٌ لفهمِ الشّرعِ والاستدلالِ من خلالهِ على طريقِ الخيرِ والسّعادة، لا الحُكمَ عليهِ من حيثُ الأصل بالصحّةِ والفسادِ
العقلُ وسيلةٌ لفهمِ الشّرعِ والاستدلالِ من خلالهِ على طريقِ الخيرِ والسّعادة، لا الحُكمَ عليهِ من حيثُ الأصل بالصحّةِ والفسادِ
 
هذا من حيثُ الإدراك وتعلّقهِ بوسائلِ المعرفة العقليّة، فماهي معاني العقل بناءً على ما ذُكرَ؟

يتّخذُ العقلُ أربعة مراتبٍ: الأولى، أنّهُ صفةٌ قائمةٌ بالذّاتِ العاقلة كما في قولهِ تعالى "لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (البقرة 73)، فهو إذن ليسَ شيئًا (جوهرًا) قائمًا بنفسهِ كما اصطلحَ عليهِ فلاسفةُ اليونانِ كأرسطو وغيره، إذ أنّ قولهُ تعالى: لعلّكُم بمعنى الرّجاء، وما كانَ مرجوًّا كانَ عَرَضًا يجوزُ عدمُه. الثانية، أنّهُ غريزةٌ جعلهَا الله في العبدِ، ينالُ بها العِلمَ والعَمَلَ؛ أي ما يُميّزُ بها المنافعَ فيقصِدُها والمضارَّ فيصدِفُ عنها، وهو -أي العقل- بهذا الاعتبار قوّةٌ يحصُلُ بها العلمُ وليست منهُ. الثالثة، العلمُ المُترتّبُ عن تلكَ القوّةِ؛ وهو مجموعُ ما تحصَّلَ من السّمعِ والبصرِ والفؤادِ، كما ذكرناهُ آنفًا. الرابعة، العملُ بالعلمِ؛ وهو أشرفُ المراتبِ وأعلاها وهو الغالبُ في الآثارِ النبويّةِ وكلامِ أئمّةِ الإسلامِ في القرونِ المُفضّلةِ ومِن بعدها. وبهذا نالَ العقلُ الشّرفَ في الشّرعِ الكريمِ، فهو عندنا مناطُ التّكليفِ وأساسُ صحّةِ العبادةِ وشرطٌ في حصولِ العلمِ ورضا الله، عزّ وجلّ.

  

فما هي علاقتهُ بالشّريعةِ؟

لخّص ابنُ تيمية علاقةَ الشّرعِ بالعقلِ فقالَ: "وما عُلم بصريح العقل لا يُتصور أن يُعارضه الشرعُ البتّة بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح" (درء التعارض)، أي أنّ علاقتهما علاقةُ توافقٍ لا تعارضٍ، ولا يجوزُ تقديمُ المعقولِ على المنقول لأنّ "معارضة العقل لما دلَّ العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلا يعلم دلالته ولا تعارضها في نفسها وإن لم يعلم صحتها " (المصدر السابق.) كما أنَّ العقلَ "من الأمور النسبية الإضافية، فإن زيدًا قد يعلم بعقله ما لا يعلمه بكر بعقله، وقد يعلم الإنسان في حال بعقله ما يجهله في وقت آخر" (المصدر السابق).
   

فالعقلُ وسيلةٌ لفهمِ الشّرعِ والاستدلالِ من خلالهِ على طريقِ الخيرِ والسّعادة، لا الحُكمَ عليهِ من حيثُ الأصل بالصحّةِ والفسادِ. وتفصيلُ ذلك: أنّ الغيبَ هو ما غابَ عنّا حِسًّا وعَقلًا، فوجبَ الإيمانُ بهِ لأنّهُ يستحيلُ على العقلِ دركهُ في الدّنيا إلّا بآثارهِ لانتفاءِ شرطهِ (الحِسّ، الذي هو أوّل طريق الإدراك)، وكلُّ أهلِ الأديانِ يتّفقونَ في هذا.
   
وخلاصةُ المقالِ أنّ العقلَ صفةٌ للإنسانِ يُحصِّلُ بها العِلمَ ليعمَلَ بهِ ويفوزَ بالسّعادةِ، لا أنَّهُ غايةٌ في ذاتهِ للدَّرسِ أو شيءٌ مُستقلٌّ كما يزعمُ الفلاسفة. ومن هنا بنى ابن تيميّة نقده للمنطق الصّوري (الأرسطي) وأسّس اللّبنات الأولى للوضعية المنطقية في صورتها المبكّرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.