شعار قسم مدونات

القوة للعلم أم للدين؟!

blogs قرآن

إذا هممت بقراءة كتاب، وبعد أن قرأت قدراً يسيراً منه أعجبك حسنه وترابط عباراته وقوة أسلوبه.. ثمّ أخبرك أحدُهم أن الكتاب عظيم وقيّم وجميل وأن الذي قرأته من جمالٍ لا يضاهي القادم منه، أهو يخبرُك أنّك لا تفقه شيئاً في تذوق الجمال؟ أم يحفزك لقراءة المزيد منه؟ أهو يحبطك لتتوقف أم يرفع همّتك وعزيمتك ويأجج فيك شغفك؟ 

حين قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، الله لا يخبرك هنا ألاّ تجهد نفسك في العلم والتعلم والبحث والاستكشاف وتبعاته بل يحفزك للمزيد، ويُعلمك أن بلوغ نهاية مناهل العلم قد تكاد تكون مستحيلة لكنّ السعي المتواصل فيها يبلغك أقصى الغايات، كما حثّ على دور العلم في أكثر من موضع، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وذلك أن العالِم من أكثر الذين يعرفون الله حق معرفته، وكيف يقلل الله من دور العالم وهو أكثر من يخشى الله؟

أنا أَعْجَبُ ممّن يتخذ الدين ذريعة للإبقاء على جهله وظلاميّته بل ويجتهد في تجهيل غيره بمفهومه الخاطئ عن العلم، فالعلم وأصوله يُعنى بالتعمق في كيان وكينونة كل شيء يوجد على هذا الكون، والإبحارُ فيه لا خوف منه ولا جزع، بل يؤتي بثماره على العالِم والمتعلم وغير المتعلّم أيضاً، ويُخلد اسم صاحب كل اجتهاد علمي وباحث لسنين مديدة!

 

أول عبادة سلكها إبراهيم عليه السلام كانت عبادة التأمل التي قادته لوجود الله، فالتأمل ذلك الرابط الخفي بين طرفي العلم والدين.. والذي يقود لكل من بطرف لاستكشاف الطرف الآخر
أول عبادة سلكها إبراهيم عليه السلام كانت عبادة التأمل التي قادته لوجود الله، فالتأمل ذلك الرابط الخفي بين طرفي العلم والدين.. والذي يقود لكل من بطرف لاستكشاف الطرف الآخر
 

ولأهمية العالم والعلم ولدورهم غير الهين في إنارة عقول غيرهم وكسر قيود الظلامية والجهل المطبق عليهم تفضيل مهم جاء به حديث عظيم المفهوم والمعاني للرسول صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) وذكر منها (علم ينتفع به). وحيث أنّ العلم لا يقنّن ولا يُختصر ولا يُحصر، تشعبت فروعه وتقاطعت وبات كل مسمّى في هذا الكون الواسع الفسيح بحر لا متناه، بل وإنّ كل جزء من هذا المسمّى هو علم قائم بذاته في شتّى المجالات والسبل.

 

هناك من يثمّن دور التفقّه في الدين على حساب العلم وهناك من يوغل في ذلك أكثر ويستعيض بالدين عن العلم، بذريعة تركِ ما لا ينفع من علوم الدنيا إلى ما ينفع في الآخرة، وهنا أتوقف عند هذه النقطة، صحيح أن التفقّه في الدين مهم بل وواجب يقتضه الخلاص في الدنيا والآخرة، ويسمو بروح وعقل المؤمن. ومن ناحية أخرى فالدين غير قائم على العلم بدليل تفوق علماء دين كثر لم يكونوا من المتحصلين على الشهادات الأكاديمية العلمية ولا هم من المثمنين لدور العلم، وصحيح أيضا أن العلم كذلك غير قائم على الدين ويعزي هذا وجود علماء كثر لا دين لهم في شتى المجالات، لكن ثمّة نقص وندبات تشوب صورة المتديّن المُزدري للعلم والذي لا يرى طائلا منه، كما تشوب صورة العالِم الذي لا دين له يخبره عن وجود الله في كل ذرة من علم ينهل منه.

الدين والعلم كالروح والجسد.. أو هكذا أراهم، لا أحد منهم يخبرك بوجوب وجود الآخر لكنك تستشعر دون مواربة أن القيمة لجسد خاوٍ من الروح تكون لا شيء وكذلك لروح تعيش في الفراغ دون جسد يبرهن على وجودها داخله، هذه القيمة تبرز أيضا عند الحاجة لكليهما معاً.. فقوة التأثير المشترك لهما على الحياة لا يُثمنها إلا من يملك زمام أمور الدين والعلم معاً، إذ أنهما يتقاطعان دون توقف، لذا يستهين بهذه القوّة كل من يهين (العلم أو الدين) لأنه لم يُوفق في الجمع بينهما.

العلم لم يأت مرة ليخالف الدين إلا من قاده علمه إلى الخطأ والبهتان، والدين كذلك لم يطمس دور العلم ولا المتعلم بل على العكس تماما، ولا يفعل ذلك إلا من أراد إضعاف الحجة التي تُطمئن قلب المؤمن لدينه

وهنا أضيء على أن أول عبادة سلكها إبراهيم عليه السلام كانت عبادة التأمل التي قادته لوجود الله، وكانت أول عبادات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بعده في غار حراء إلى أن نزل عليه الوحي، التأمل ذلك الرابط الخفي بين طرفي العلم والدين.. والذي يقود إلى كل من في طرف لاستكشاف الطرف الآخر. كل شيء في هذا الكون يقدم لك دعوة مجّانية للتأمل، وكثر قادهم التأمل المدعم بالبحث والتفكر لوجود الله، ذلك أن إتباع بواعث الشيء تؤدي للشيء، والتفكر في ملكوت الله وقراءته بتعقل عن بعد وقرب لا يؤدي إلا إليه.

لكن أن يحارب العلم الدين والدين العلم في أرض معركة دون حاجة لذلك، هذا ما عجزت عن فهم كنهه وأسبابه وبواعثه، فالحرب بينهما جدليّة لا طائل يُرجى منها، ولعلّ التاريخ خلّد مواجهة بينهما كانت عندما توصل "جاليليو جاليلي" لاكتشاف مركزية الشمس من خلال "تلسكوبه" المطور واعتبرت الكنيسة آنذاك أن ذلك كفر واضح وصريح فبحسب اعتقادها أن الأرض هي محور الكون وأن جميع الأجرام السماوية تدور حولها وحُكم عليه بالحبس المنزلي إلى أن مات، وعند ثبوت صحة كلامه خُلّد اسمه واعتذرت الكنيسة له بعد وفاته، هذا بينما لم يذكر التاريخ رجال الدين الذين عارضوه وكفروه إلا نقمة بفعلتهم الشنعاء.

المغزى من كل ما قلت هو أن العلم لم يأت مرة ليخالف الدين إلا من قاده علمه إلى الخطأ والبهتان، والدين كذلك لم يطمس دور العلم ولا المتعلم بل على العكس تماما، ولا يفعل ذلك إلا من أراد إضعاف الحجة التي تُطمئن قلب المؤمن لدينه، لو سألني أحدهم لمن القوّة؟ للعلم أم للدين؟ سأجيب دون مواربة أنه للوصول لرأس مثلث القوة هو أن يقوم المثلث على ركيزتين إحداهما الدين والأخرى العلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.