شعار قسم مدونات

النزعة السعودية.. متلازمة الإعمار والسيطرة

U.S. Secretary of State Rex Tillerson and Saudi King Salman speak before their meeting in Riyadh, Saudi Arabia, October 22, 2017. REUTERS/Alex Brandon/Pool

ربما يصح الافتراض القائل بأن "التاريخ يعيد نفسه"، لقد قامت الواقعية السياسية لدعم هدف أقصى هو "البقاء"، وقد سادت الحروب بما فيه الكفاية واشتّدت الصدامات بين الحضارات لدعم ذلك الهدف، فارتسمت على إثر ذلك أنساقاً هيكليةً ألقت بظلالها على الأجندات التنظيمية التي باتت تحكم السياسة في العالم، وهنا لا فرق بين العالم البدائي القديم والعالم الحضاري الحديث، فمبدأ "البقاء" متأصلٌ في القواعد الناظمة لسائر المجتمعات على اختلاف محصلاتها الظرفية. وتعود الحجة الدامغة في هذا الاتجاه لأولوية "الاكتفاء الذاتي" باعتباره الضابط لتأمين المصلحة القومية منذ نشأة الفكر الإمبراطوري، وربما لو استحضرنا الحروب الرومانية-القرطاجية (الحروب البونية 263- 146 ق.م)؛ فإننا سوف نهتدي إلى الرواية الحقيقة وراء تجدد الصراعات من أجل البقاء، والحال نفسها تنطبق على حقبة العقلانية أو قرن العقل وهو القرن السابع عشر للميلاد والذي اندلعت فيه حرب الثلاثين عاماً بين الإمبراطوريات الأوروبية، فما الذي كان يدفع تلك النظم الإمبراطورية إلى التورط في حروب طاحنة تؤرق شعوبها سنين طويلة، غير أنها كانت تصارع الزمن في محيط يسعى كله إلى البقاء.
   

وبالنظر إلى العلاقة بين مضموني "البقاء" و"السيطرة"، فإن الدول إنما تبقى إذا كانت مسيطرة على بيئتها المحلية من جهة، وذات اقتدار على السيطرة في مجالاتها الحيوية في خارج إطارها الجغرافي. إن ذلك الخيط الرفيع في العلاقات السياسية التي تحكم التفاعلات بين الدول يظل قابعاً في معادلة المصلحة والقوة التي يقوم عليها النظام الدولي منذ نشوء الدولة القومية بموجب اتفاقية ويستفاليا عام 1648م، وهو ما كان يعطي كل دولة حيزاً محدداً في المجال السياسي وبما يرعى تراتبية مكانة القوة بحسب كل دولة، ومن ذلك أن التغير في توزيع القوة يؤدي بالضرورة إلى حدوث تغيرٍ موازٍ في بنية النظام، وبالتالي التأثير على الأنماط الوظيفية لهذا النظام، ولا شك أن تركّز القوة في يد حِفنة قليلة داخل النظام يعني نشوء حالة من التناقض في البيئة الهيكلية وما يعقبه من ديناميات تتبلور في شكل استقطابات تقوم على أساس توازن القوى والتي يُنتجها ذلك التناقض، ولعل الاخفاق في ملء فراغ القوة الناشئ أيضاً من ذلك التناقض هو الذي يخلق السبب الفوري لوقوع الحروب، وذلك أن الخلل الذي قد يُصيب معادلات القوة يُثير الشعور بالخطر الداهم ضمن ما يُسمّى بـ"الخوف الهوبزي" نتيجة انعدام الإجماع بين الدول وفقدان الثقة في الأدوار التي تؤديها كل دولة في النظام، ومن هذه النقطة تنطلق الواقعية الجديدة (NewRealism) من القول بأن بنية النظام الفوضوية تفرض على الدول الأعضاء نمط السلوك المتبع في بيئة المساعدة الذاتية "المأزق الأمني"، بحيث إن الدول في هذه الوضعية تكون مبرمجة للعب دور محدد تمليه اعتبارات تراتبيتها في سُلّم القوى.

 

 تسعى خطة مارشال إلى مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية (غيتي)
 تسعى خطة مارشال إلى مساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية (غيتي)

 
لقد نشبت الحربين العالميتين الأولى والثانية في ظروف مشابهة لما عرضنا له آنفاً، واللتان كان لهما تأثيرٍ حاسمٍ في توجيه محركات السياسة الدولية نحو إنشاء نظام عالمي ثنائي القطبية، عقب تراجع الهيمنة السياسية والاقتصادية للدول الأوروبية لصالح أمريكا والسوفيات، ما آذن بدخول العالم في صراع كوني عارم، وما رافقه من اتساع حدة التنافس بين القطبين سعياً لتوسيع ساحات التأثير وتحقيق أكبر قدر ممكن من النفوذ الإستراتيجي ليكون ميزة لأحدهما على حساب الآخر، وقد ظهرت مخاوف منشؤها نزوع السوفيات آنذاك إلى السيطرة على دول من القارة الأوروبية التي أنهكتها الحرب، والتي كانت بحاجة ملحة إلى التعافي من الدمار الهائل والهبوط الاقتصادي، وكانت الولايات المتحدة تسعى لقطع الطريق على السوفيات عبر إفشال التخطيط الإستراتيجي الشيوعي المحتمل لدعم أوروبا بهدف السيطرة عليها، ومن أجل ذلك صاغ الأمريكيون برنامج للتنمية الاقتصادية بموجب مشروع "مارشال" لإنعاش أوروبا وإعادة إعمارها، بما يخدم هدف توسيع السيطرة الإستراتيجية الأمريكية في أوروبا واستغلالها في تقويض نفوذ السوفيات.

  
وبعيدا عن التفصيل الإجرائي في هذه المسألة فقد استفادت الولايات المتحدة من أوروبا في حربها للتخلص من الثنائية مع روسيا السوفياتية، وتهيئة الساحة الدولية لدخول مرحلة العولمة التي تسيطر عليها قوة واحدة تنفرد بتوجيه مركز التفاعلات الكونية، وقد ظهر اتجاه أمريكي لا يقر فقط بهذا التحول، وإنما يؤكد أيضا أن الوضع الدولي الناشئ يتسم بقدر كبير من الثبات لعجز القوى الدولية الأخرى عن تغيير معادلة القوة التي أفرزها التفوق المطلق لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كانت هذه المقولة تسيطر على العقل الجمعي الذي يحكم أروقة السياسة الأمريكية، حتى يومنا هذا.

  
إن أصحاب المدرسة الواقعية الجديدة يرون أن انخراط الدولة القوية في الحروب، سواء تحققت أهدافها أم لم تتحقق، سوف يجعل منها قوة لا يُستهان بها في اللعبة الإستراتيجية الدولية، لا سيما إذا كان الهدف المحدد للحرب هو البقاء في مثلث السيطرة والنفوذ. وعندما تظهر حالة من الانشقاق في دول القوة الهيكلية في نظام دولي أو اقليمي، فإن هذا الانشقاق سوف ينشأ عنه فراغ قوة ضمن معطيات القوة الثابتة والمتغيرة، وبالتالي فإن الاتجاه العام الذي سوف يسيطر على النظام هو النزعة نحو "السيادة المطلقة" بهدف السيطرة على التفاعلات.

   
إن الحالة الإقليمية التي يشهدها الشرق الأوسط اليوم يمكن وصفها بأنها انشقاق في المعادلة الإستراتيجية التي ظلت تحكم تفاعلات المنطقة، طوال نصف قرن مضى، أي منذ تحول النمط الوظيفي للدول الفاعلة في المنطقة "السعودية، إيران"، ومكانة الدولتين في تراتبية مكانة القوى الإقليمية. إن الصراع الطويل الذي طال أمده بين السعودية وإيران وتمدده في جبهات متعددة وفق "حروب الوكالة" في لبنان وسوريا والعراق واليمن وأفريقيا وغيرها، كلها تلتقي في قاسم مشترك، وهو الرغبة في السيطرة على مركز التفاعلات الإقليمية، في موقف يشبه إلى حد كبير الوضع الدولي إبّان الحرب العالمية الثانية وما تلاها.

 

تسعى السعودية لمساحة أكبر للتأثير في مجريات السياسة الشرق أوسطية بما يخدم ثلاثة أهداف رئيسية تتلخص في: احتواء إيران، والحرب على الإرهاب، وصياغة تسوية سياسية تُنهي الصراع مع إسرائيل
تسعى السعودية لمساحة أكبر للتأثير في مجريات السياسة الشرق أوسطية بما يخدم ثلاثة أهداف رئيسية تتلخص في: احتواء إيران، والحرب على الإرهاب، وصياغة تسوية سياسية تُنهي الصراع مع إسرائيل
 

تلك العناصر المشتركة تنطبق أيضاً على الأدوار الوظيفية التي قبلت بها السعودية بوجه خاص، في إطار يتصل بالمنظومة الأمريكية التي تعتبر الأقوى تأثيراً في السياسة الدولية والإقليمية، وقد ساعدت المقومات الجيواستراتيجية والجيواقتصادية السعودية في ممارسة نفوذها والقيام بدور القوة الأكبر في المنطقة العربية والسعي إلى تحقيق السيادة في الشرق الأوسط، بل وربما الزعامة في العالم الإسلامي، بما تمتلكه من مكانة لدى الشعوب الإسلامية، وبسبب هذا التوجه وجدت إيران نفسها في مواجهة محتدمة مع السعودية، وربما يصح أن نصفها إجرائياً بالحرب الإقليمية الباردة في الشرق الأوسط.

  

هناك من يرى أن السعودية أمام فرصة لقطع الطريق على إيران، في مسألة إعادة الإعمار في سوريا وليبيا واليمن ولبنان والعراق

إن هذه الحرب تتبلور بشكل صارخ في الشرق الأوسط، وتتضح معالمها مع سريان حالة الاصطفاف بين اللاعبين الإقليميين، وارتباك الحسابات الإقليمية في سوريا، في ظل تورط جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين في مسارات الأزمة السورية، باعتبارها ركيزة مهمة في الحرب الإقليمية الباردة في الشرق الأوسط، وربما لم يغب عن الأمريكيين أن التسليم بالشرق الأوسط كمنطقة نفوذ لإيران سوف يضع الصداقة الإستراتيجية مع السعودية في مرمى النهاية، ولا شك أن واشنطن راضية إلى حدٍ ما عن منح السعودية مساحة أكبر للتأثير في مجريات السياسة الشرق أوسطية بما يخدم ثلاثة أهداف رئيسية تتلخص في: احتواء إيران، والحرب على الإرهاب، وصياغة تسوية سياسية تُنهي الصراع مع إسرائيل، والملاحظ أن الرياض تمتلك أوراقاً مهمةً في هذا الاتجاه، بل وترصد لذلك جهوداً كبيرةً ضمن محركات السيطرة وتوسيع ساحات التأثير على حساب القوى الإقليمية الأخرى.

  
إن الأزمة الحالية مع دولة قطر، تصب في الإطار ذاته، وقد قلنا سابقا أن التناسبية الوضعية لمبدأ البقاء يستلزم من الدولة السيطرة في بيئتها المحلية ومجالها الحيوي، وعندما تتجه السعودية إلى احتواء المواقف العربية وربما الإسلامية في آسيا وأفريقيا بغرض تعويم سياستها أو تحقيق "القِوامة السياسية" في محيطها؛ فإنها تجد في إزاحة دولة قطر من طريقها سبباً منطقياً، تتحقق خلاله للرياض السيطرة على القرار الخليجي بصفة عامة، وليس هذا فحسب.

  
تدرك المملكة أن حربها مع إيران تستوجب توحيد الصفوف تحت رايتها بشكل منفرد، ويُعينها على ذلك المكانة العالمية وبالذات علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وقد رأينا أن السعودية تتوجه نحو الصين وروسيا وتعمد إلى بناء أرضيات مشتركة في المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية وربما العسكرية، بصورة قد تُفيدها في التأثير على مسار العلاقات الإيرانية مع كل من الصين وروسيا، وتحييدهما عن دعم إيران في مقابل تغيير الموقف السعودي في سوريا.

 
هناك من يرى أن السعودية أمام فرصة كبيرة للتحرك في مسألة إعادة الإعمار في سوريا وليبيا واليمن ولبنان والعراق كمدخل للسيطرة على مركز التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط وقطع الطريق أمام إيران.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.