شعار قسم مدونات

عندما توقف دموع "بوفون" عقارب الساعة وتعزف "ليتاليانو" الحزين!

MILAN, ITALY - NOVEMBER 13: Gianluigi Buffon of Italy shows his dejection shows his dejection at the end of the FIFA 2018 World Cup Qualifier Play-Off: Second Leg between Italy and Sweden at San Siro Stadium on November 13, 2017 in Milan, (Photo by Marco Luzzani/Getty Images)
لا تُخلق السياحة بالفنادق الشاهقة والمقاهي الفاخرة والنوادي الليلة والطبيعة الساحرة فقط، إنما تُخلق السياحة بالثقافة الجامعة بين الآداب والفنون والعلوم وغيرها من إبداعات بني آدم، تلك الظواهر الملهمة للإنسان والمميزة لمكان ما خلال فترة زمنية محددة. 
 
وطالما جسدت ثقافة الشعوب جسر عبور بين العصور والقارات وشعوب العالم، ألم تأت نهضة ثقافية فكرية جسدت طورا جديدا في القارة العجوز! أناملُ رسمت وخطت، وألوان اختلطت وامتزجت بالأديان والأجناس جسدت مخطوطات لمهد الثقافات والشعوب الأوروبية. من إيطاليا من هناك، من عراقة روما وصقلية والبندقية أطلت ثقافة امتدت جذورها عبر التاريخ، تلك ثقافة تروي أحقابا وفترات زمنية شاهقة بعظمة شخوصها الفنية. فمن جداريات الرسم الفاخرة، وأطباق الباستا والبيتزا، ومن أحضان الطبيعة الخلابة تجلت شتى أشكال الإبهار الثقافي: سينما ومسرح ورسم ومعمار ونحت وموسيقى وغناء أوبرالي وطبخ…

نعم عن الإبهار الثقافي ومعجزاته أحدثكم، عن الأقلام والألوان وريشات الرسم والمنحوتات واللوحات ونغمات الموسيقى وأزياء الموضة وعروضها التي صنعت جميعها عصر النهضة الإيطالية: أعلام وعلماء وعلوم نحيي ذكراهم ونعشق إبداعاتهم في صخب الحياة من الغرب وحتى الشرق.

يعود بنا التاريخ للقرن الرابع عشر للميلاد.. عقود وقرون تلتها تلونت بزخارف إبداعية قطعت أوتار القرون الوسطى والعصور البدائية أو المظلمة حتى أطلت، وبخطى ثابتة حقبة جديدة بُنيت على حرية الفكر والبحث والإبداع. وعلى أمجاد "تيتسيانو فيتشيليو" و"ييرو ديلا فرانشيسكا و"بوتشيللي" و"ليوناردو دافنشي" و"رفائيل" و"تيتان" و"كارافاجيو بافاروتي" و"كلاوديا كاردينالي" وغيرهم ممن يحن الفؤاد لهم وتعشق العين رؤياهم أمثال "مونيكا بيلوتشي" و"صوفيا لورين" وإيقاعات "أنا الإيطالي" "لايتاليانو" (لصاحبها توتو كوتونيو).

undefined

ثقافات تنبثق من الأدب والفنون والقوى الفكرية.. ومن الرياضة أيضا! لكنّ روما يا سادة، لم تعد تقتصر على كتابات "بترارك" و"بلدسر كاستيغليون" و"نيكولو مكيافيلي". لم تعد روما تتجلى فقط بالأعمال الفنية "لمايكل أنجلو" و"ليوناردو دافنشي" أو من خلال كنيسة القديسة ماريا ديل فيوري وكنيسة القديس بيدرو.. إنما أصبحت روما "الكالتشيو"! وكما "الحياة لا تكفي لمشاهدة جميع الآثار في إيطاليا" وتلك قولة إيطالية شهيرة، "non basta il tempo per vedere i monumenti in italia".

فجميل أن يجزم البعض بأن "الوقت قد لا يكفي لمعرفة كل شيء عن الكالتشيو"! فللإمبراطورية الرومانية تاريخ مع الفن والثقافة، كما هو تاريخها مع كرة القدم! و"إيطاليا جنة كرة القدم" كما لقبها "دييغو أرماندو ماردونا". بينما يشبه الإيطاليون عشقهم لكرة القدم، بتعلق الطفل الصغير بأمه فلا ير غيرها في الوجود! وللناس فيما يعشقون مذاهب! وذاك يا سادتي عشق من نوع آخر، كيف لا وقد صنعت كرة القدم الإيطالية مجدا ونصرا نسجت من خلاله ثقافة جديدة هزت عرش "معشوقة الجماهير".

وقد أضحى الكالتشيو عالما بأمجاده وبطولاته التي تصنع أجيالا وتبني اقتصادات وتحكي أفكارا وقيما، كما تبني أحلاما وتخلق جيوشا من المتابعين والعشاق للعبة وصفها "ستافورد هيجينبوثام" بأنها الأوبرا التي يعزفها البشر جميعا!

كما وقد خلدت بالأذهان قولة شهيرة للنجم البرازيلي زيكو: "إن كنت تظن نفسك نجم كرة قدم فاذهب إلى إيطاليا لتتأكد من الأمر"! ألم يصدق القول؟ حتى "كاكا" عندما سُئل عن أحلامه وأمنياته، قال: "أمنيات! لماذا أحلم وأنا أعيش في واقع؟ وماذا تريدوني أن أتمنى أكثر من اللعب في بلد كرة القدم، باختصار.. أحلامي وأمنياتي انتهت"!

كرة القدم.. تلك المجنونة التي نعشق ويعشقون تحرك فينا، دون أن نعلم، أحاسيس وضربا من الوطنية.. تلك التي ولدت من أرحام الصينين داخل معسكراتهم، لتترعرع بين أقدام البريطانيين

فهل تذكرون أيقونة التشيلسي الفنان الصغير "زولا" – وكريستيان "بوبو" فييري من المهاجمين الأكثر رعبا في التاريخ، و"فرانشيسكو توتي" ويُلقب بمصارع روما المغوار. وهل تستحضرون "المهندس المعماري" أندريا بيرلو، أو أسطورة ميلان "باولو مالديني"! هل تذكرون هداف يوفنتوس الأسطوري "أليساندرو ديل بييرو"؟ وماذا عن "ثعلب الصندوق" باولو روسي؟! الحديث حتما ذو شجون لو ذكرت لكم "ذيل الحصان الشهير"! "روبرتو باجيو" أسطورة معظم الفرق الكبرى في إيطاليا.. و"فيليبو إنزاغي"، و"دينو زوف" و"والتر زينغا" و"ألساندرو ألتوبيلي" و"روبيرتو دونادوني" و"لويجي ريفا" و"جياني ريفيرا" و"فرانكو باريزي".. وتطول القائمة وقد لا تنتهي فعلكم من عشاق الكابتن صخرة الدفاع "فابيو كانافارو"؟!

وعلى رأس القائمة، أفضل حراس المرمى في العصر الحديث "جيانلويجي بوفون" الذي قاد إيطاليا إلى نهائيات كأس العالم 2006 في ألمانيا، صاحبِ النظرات الثائرة الغائرة الغاضبة الضاجعة الموجعة المفجعة التي انفجرت بحجم فاجعة عدم ترشح إيطاليا لمونديال روسيا 2018. نظرات أشعلت نيران ملايين الأفئدة من عشاق المستديرة الجميلة، ولحظات عشق أوقفت تاريخ الكرة الإيطالية واستوقفت العقول البشرية!

لحظة مجنونة وصورة ساحرة حائرة جامحة التقطتها عدسات المراقبين والمصورين وصادتها قلوب المشاهدين: اللحظة التي توقف عندها الزمن وتوقفت الأنفاس هناك في أعماق القارة العجوز بين أحضان التاريخ والحضارة، توقف الجميع واصطدمت أحلامهم بالعارضة! أسقطت آمالا وتطلعات وانتظارات. جرفت دموعا وآهات، وسببت أحزانا لونت كتابات وبوستات ومشاركات وتصريحات، تلتها اعتزالات وصراعات وخصومات.

"آل كالسيو ديزاسترو" تلك هي فاجعة كرة القدم الإيطالية التي لم يتحملها الأطفال ولا مرضى القلب ولا كبار السن، ولا حتى الشباب! انسحاب وعجز وكسر ولدّ يقينًا لدى عشاق "التليان" من متابعي كرة القدم أن الدراما الكروية لا يمكن أن تنتهي. وهنا نتوقف عند أولئك الذين لا يرون من الكرة ومن الرياضة إجمالا إلا الجانب البدني فقط، ويعجزون عن رؤية الجانب الفكري التكتيكي والرياضي الأخلاقي الذي يضفي على الحماسة أجواء من الجمال والإنسانية يصنع منها ثقافة وإبداعا وأعلاما ووطنا!

"يعتقد البعض أن كرة القدم مسألة حياة أو موت، للأسف هذا يجعلني حزيناً.. فهي أكثر من هذا بكثير!" المدرب بيل شانكلي.
فتلك المجنونة التي نعشق ويعشقون تحرك فينا، دون أن نعلم، أحاسيس وضربا من الوطنية.. تلك التي ولدت من أرحام الصينين داخل معسكراتهم، لتترعرع بين أقدام البريطانيين أولا ثم تنشأ لعبة فنية جدية ووطنية.

فيا سادتي الكرام لم تعد ثقافات الشعوب أمجادا تصنعها الفنون والعلوم والآداب فقط، بل أضحت لها أساطير وقصص أبطالها لاعبو كرة القدم! وللمدرسة الإيطالية "الكالتشيو" معجزات لم ولن تتوقف طالما أن الساحرة المستديرة ما زالت تجري بين أقدام لاعبيها- علني أستعير تصريحا خاصا لـ"جوزيف بلاتر": "الكالتشيو جميل حتى بأخطائه، وفي النهاية أقول: الكالتشيو كان أقوى وأجمل وأمتع دوري في العالم.. ومازال، وسيظل كذلك إلى آخر الزمان"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.