شعار قسم مدونات

انهيار السياق.. طاعون وسائل التواصل الاجتماعي

مدونات - جوال موبايل هاتف

في جلسة سَمر تجمعك بأصدقائك؛ تسرق دقيقة من وقتكم الجميل لتكتب شيء على حسابك -في الفيسبوك أو التوتر- مما أُلهِمْتَه في تلك اللحظة؛ مُزكّيا لصديقك الذي على يمينك أو متهكما على صديقك الذي على شمالك؛ فينزل عليك تعليق غريب لا يمت لـمُرادك بصلة؛ فتنظر في صاحبه لتجد بأنه من الذين لا تعرفهم إلا في الفضاء الافتراضي؛ ترد عليه وتنبهه إلى أنه لم يفهم فحوى منشورك، وبأنك تعني به شيء آخر غير الذي فَهمه؛ دقائق وتَنهال عليك عشرات التعاليق على نفس الشاكلة؛ يُصيبك انزعاج شديد ينتهي بك في معظم الأحيان إلى حظر واحد أو اثنين من هؤلاء المعلّقين الأغبياء.. يا لها من تجربة سيئة! إنه انهيار السياق.

إن الفيسبوك -وعلى غرار كل مواقع التواصل الاجتماعي- لم يُقدّم لنا فقط طرقا جديدة للتعبير عن ذواتنا، ولكنه رسم أمامنا أشكال غريبة من الوعي الذاتي؛ ونمّى عندنا طرائق شاذة للتفكيـر؛ فانزلق بذلك جيل كامل من الشباب نحو حالة من الانهيار في البنية السيكو-تواصلية؛ وقد غذّت هذه التحوّلات شغف الكثير من الباحثين والأكاديميين؛ فظهر بذلك طيف عريض من البحوث التي تهتم بهذه الظواهر الجديدة.

 

وتعد ظاهرة انهيار السياق (Context Collapse) من أهم هذه الظواهر التي باتت تشكل هاجسا حقيقيا، يؤرق لا المستخدمين وحدهم بل حتى أصحاب منصات التواصل الاجتماعي؛ حيث تُشير مؤسسة الفيسبوك -مثلا- بأنها رصدت مؤخرا تراجعا لافتا في إقبال الكثير من المستخدمين على النشر والكتابة على حساباتهم؛ ويُعتقد أن سبب هذا التراجع هو معايشتهم لتجارب سيئة من خلال معاناتهم من تداخل كبير بين مساحتهم الشخصية وتلك الإسقاطات التي تأتيهم من عامة المستخدمين؛ إذ غالبا ما ينهار السياق الذي كتبوا أو نشروا فيه مواضيعهم وتتسرب إليه فُهُومٌ خاطئة من سياقات أخرى؛ بحيث يَنطلق كل صاحب تعليق -من خارج دائرة الأصدقاء والمعارف الحقيقين- من سياقه الخاص، دون أن يعرف الوضع و الدوافع الحقيقية الكامنة وراء هذا المنشور أو ذاك؛ وبدون معرفة أفكار ومواقف وطريقة الجِد والهزل التي تميّز صاحب المنشور، والتي عادة ما لا يعرفها الا أصدقاؤه الحقيقيون.

ورغم أن مؤسسة الفيسبوك قد سعت إلى الحد من هذه الانهيارات من خلال تنبيه مستخدميها بشكل متكرر إلى ضرورة تفعيل خيارات النشر مع الأصدقاء فقط؛ إلا أن المشكلة تظل قائمة بحكم أن دائرة الأصدقاء في حد ذاتها غالبا ما لا تكون نقيّة، بل ويغلب عليها وجود حسابات لأشخاص فضوليين مستعدين لطلب صداقة أي شخص لمجرد أنه يقطن في ذات المدينة التي يسكنونها أو يعمل في ذات المؤسسة التي يشتغلون فيها.

 

لقد ارتبط مفهوم انهيار السياق  بودريار عن الواقع المفرط وانهيار الواقع؛ أي أن يترتب على تتابع إنهيارات السياق انهيار القدرة على التمييز بين ما هو خيالي وما يبدو أنه حقيقي
لقد ارتبط مفهوم انهيار السياق  بودريار عن الواقع المفرط وانهيار الواقع؛ أي أن يترتب على تتابع إنهيارات السياق انهيار القدرة على التمييز بين ما هو خيالي وما يبدو أنه حقيقي
 

ويعتبر عالم الأنثروبولوجيا الثقافية مايكل ويش (Michael Wesch) من جامعة كانساس هو أول من أشار إلى هذه الظاهرة التواصلية؛ وذلك حينما تابع التعليقات على منصّة اليوتيوب، ليدرك حجم اللبس الذي يقع فيه الكثير من المعلقين على الفيديوهات المنشورة؛ حيث غالبا ما لا يُدرك هؤلاء المعلقين السياق الذي سُجّل فيه الفيديو ولا الخلفية السوسيوثقافية للأحداث التي يُظهرها؛ فتأتي معظم تعليقاتهم من خارج هذا السياق؛ لدرجة يضطر فيها بعض الناشرين إلى تقديم توضيحات في شكل فيديوهات تكميلية؛ وفي بعض الأحيان ولشدة مأساوية تلك التجربة يزيلون المحتوى الرقمي الذي سبق لهم وأن نشروه؛ بسبب حالة انهيار السياق التي وقعت له.

 

وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تفشي هذه الظاهرة بسبب إمكانية وصول المواد التواصلية التي تنشر إلى جماهير واسعة مُعظمها من خارج السياقات الثقافية لمنتجي هذه المواد؛ وذلك قياسا للتواصل التقليدي الذي تتميز مجموعاته التفاعلية بالمحدودية؛ مع ضمان تواصل مباشر وجها لوجه؛ بحيث يمكن للأفراد ضمن هذه التفاعلات المحصورة أن يقوموا بتعديل نَغمة الصوت وملامح الوجه لتتناسب مع السياق الدلالي الذي يَودّون تبليغه مع الرسالة التواصلية، وفي حالة انهيار السياق في مواقع التواصل الاجتماعي يُصبح هذا التعديل مستحيلا وذلك لانحصار التواصل في عملية الكتابة.

ولقد ارتبط مفهوم انهيار السياق بمفهوم جون بودريار (Jean Baudrillard) عن الواقع المفرط وانهيار الواقع؛ أي أن يترتب على تتابع إنهيارات السياق انهيار القدرة على التمييز بين ما هو خيالي وما يبدو أنه حقيقي؛ فقد أشار بودريار إلى أن انتشار وسائل التواصل الحديثة، لاسيما الإلكترونية منها، أدى إلى تغيّرات عميقة في طبيعة حياتنا، فما يصلنا من خلال هذه الوسائل ليس الواقع الحقيقي ولا حتى جزء منه؛ وإنما هو حالة من الواقع الـمُفرط، الذي يتجسد في ما نشاهده من صور وأحاديث وتعليقات يتم انتقاؤها دون القدرة على نقل الصورة الكاملة و المتواضعة للحدث؛ والتي تحتاج إلى تضافر كل الحواس بما فيها القدرة على الملامسة والشم.

انهيار السياق بهذا الوصف صار قدرا مُؤلما علينا التعامل معه بكل وعي لتجنب آثاره السلبية على حياتنا الافتراضية وحتى الواقعية؛ ولن ننجح في هذا التعامل الوِقائي إلا بالانطلاق من نقطة البداية؛ استنادا إلى التفكير في هويتنا الخاصة، التي يمكن للسؤال الوجودي (من أنا؟) أن يثيرها من خلال خَلق حوار داخلي دائم حَول تلك الجوانب الاجتماعية في ذواتنا، وما إذا كنّا حقا ندرك السياق الذي نَعيشه؟ وما إذا كانا مستعدين للتريث قبل مشاركة حياتنا الخاصة مع أشخاص من خارج هذا السياق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.