شعار قسم مدونات

بوصلة مشبوهة.. لماذا لا يوجه حزب الله البندقية لإسرائيل؟

مدونات - LEBANON HEZBOLLAH FUNERAL Headline Funeral for Hezbollah fighters killed in Syrian civil war Description epa04748353 Members of Hezbollah stand to attention during the funeral of Ahmad Tawfic al-Ameen, killed figthing alongside Syrian Government forces in Qalamun, al-Bablyeh in southern Lebanon, 14 May 2015. According to reports Hezbollah has paid a heavy price supporting Syrian Government forces fighting opposition groups in the civil war. EPA/STR

لا يعرف الزمان والمكان تماما، فالمقطع النادر المنتشر بالأبيض والأسود لا يكشف بقية التفاصيل الموضوعية، لكن يبدو أنه في نهاية الثمانينيات، وفي أحد "حسينيات البلدية"، في لبنان، كما يكشف المحاضر في محاضرة مطولة أخرى موضوعها "ولاية الفقيه"[1].

 

رغم ذلك؛ فالشخص الذي يلقي الندوة، ضمن سلسلة محاضراته عن "ولاية الفقيه"، معروف تماما بهيئته ولهجته وصوته وطريقة إلقائه التي لم تتغير مع الزمن الذي زاد شعره شيبا ولغته مرونة وسياسية، ورفع مكانه السياسي داخل الحزب، من أحد الشباب العشرينيين المؤسسين المتحمسين حينها، إلى ما يعرف اليوم بـ"الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله"، وليكبر معه الحزب الذي تأسس مطلع ثمانينيات القرن الماضي على يد ١٥٠٠ عنصر فقط من الحرس الثوري الإيراني [2] إلى القوة العسكرية الأقوى من الجيش اللبناني[3]، بقوة عسكرية تصل إلى ٢٠ ألف عنصر، بينهم خمسة آلاف عنصر محترف تدربوا في إيران، إضافة لخمسة وعشرين ألف عنصر احتياط[4]، وليصبح ورقة سياسية لبنانية وإقليمية ودولية لا يمكن تجاوزها.

 

على العموم، بعكس غموض إحداثيات المحاضرة؛ كان جواب نصر الله على أحد الأسئلة في نهاية الندوة واضحا تماما: "مشروع حزب الله، الذي لا يمكن أن نتبنى غيره كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية… كجزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى، تحت حكم صاحب الزمان ونائبه في الحق الولي الفقيه الإمام الخميني"، والذي لا يمكن الوصول له، بحسب ما يرى نصر الله، إلا بعد "إزاحة الحالة الاستعمارية والإسرائيلية". بمعنى آخر، يرى نصر الله ويؤكد في محاضرته أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في أدبيات الحزب ليس أكثر من وسيلة وأداة لتحقيق ولاية الفقيه الإيراني في لبنان، وما الحزب إلا الجزء اللبناني "المتصل عبر مراتب إلى الولي الفقيه" [5] من المشروع (السياسي/الديني) الإيراني الحالي، الذي أسسه الخميني بعد الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ ويمكن اختصاره بكلمتين: "ولاية الفقيه".

 

التأسيس

في حي الكارنتينا، المختلط طائفيا والذي يجمع محدودي الدخل شمال شرق بيروت، كان الطفل حسن ينزوي بنفسه وبأحلامه المعلقة بصورة الإمام موسى الصدر، المعلقة في محل الخضار الذي يساعد به والده على عائلتهم الكبيرة ذات التسعة أطفال والتي كان حسن بكرها. لم يكن حسن يشبه بقية الأطفال الآخرين، فبينما كانوا يلعبون كرة القدم ويتوجهون للسباحة، كان حسن يتردد إلى المسجد في حي سن الفيل أو برج حمود أو النبعة، وبينما لم يكن لعائلته أي احتكاك مع العلماء، كان حسن مهووسا بقراءة الكتب الدينية قبل أن يتم دراسته الابتدائية في مدرسة حي "النجاح"، وتوجهه إلى مدرسة "سن الفيل" الرسمية، قبل أن تدفعهم الحرب للعودة إلى قرية البازورية الجنوبية قرب مدينة صور، ويلتحق مع "حركة أمل"، كخيار طبيعي بالنسبة له لتعلقه بالصدر، وكخيار استثنائي في قرية يسيطر عليها الماركسيون، وخاصة الحزب الشيوعي اللبناني[6].

 

خطاب لحسن نصر الله في عام 1992 يحث فيه الفلسطينيين على حمل السلاح ضد الإسرائيليين (رويترز)
خطاب لحسن نصر الله في عام 1992 يحث فيه الفلسطينيين على حمل السلاح ضد الإسرائيليين (رويترز)

 

على صغر سنه، أصبح حسن مندوب حركة أمل في البازورية، وقرر خلال شهور التوجه إلى النجف في العراق لإتمام الدراسات الدينية هناك، قبل أن يبلغ السادسة عشرة، فوصل إليها بلا شيء تقريبا سوى رسالة توصية من أحد علماء صور إلى محمد باقر الصدر، وهناك التقى بعباس الموسوي، الذي أوصله إلى الصدر، وتوكل مسؤولية رعايته وتعليمه، ليصبح "صديقه وأخاه وأستاذه ورفيق دربه"، بدءا من الملاحقات التي طالتهم على يد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ودفعت حسن للعودة وإتمام الدراسة في مدرسة الموسوي في بعلبك، أو في المنعطفات الكبرى التي مروا بها معا، بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي الكبير عام ١٩٨٢، والذي دفعهم للانشقاق عن أمل وتأسيس حزب الله، على يد الطلبة الدينيين الذين فتحوا خطهم المباشر مع إيران، وحصلوا على الدعم المعنوي والمادي منها هناك[7].

  

تأسس الحزب على يد هؤلاء الطلاب والشيوخ، وعلى رأسهم عباس الموسوي، الذي كان الأمين العام للحزب حتى اغتياله عام ١٩٩٢، ليتولى مكانه حسن نصر الله، وينقل الحزب إلى مستويات أخرى، برهانات كبرى[8]، أبرزها قرار المشاركة كحزب سياسي في الانتخابات عام ١٩٩٣ بعد كونهم حركة "إرهابية" مرتبطة بسلسلة من الهجمات وعمليات الاختطاف، جعلتهم الحزب الأكثر سيطرة على البرلمان والمسير أو المعطل للحياة السياسية اللبنانية، وقرار المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء بحرب الصواريخ التي مكنتهم عام ٢٠٠٠ من تحرير معظم الجنوب اللبناني، أو حرب تموز عام ٢٠٠٦ التي استمرت ٣٤ يوما وتسببت بدمار كبير واعتبرها كلا الجانبين "انتصارا"، لكنها رفعت رصيد الحزب عربيا وشعبيا حينها ليصبح نصر الله هو الزعيم الأكثر شعبية في العالم العربي، بحسب استبيان لمركز السادات للسلام والتنمية عام ٢٠٠٨[9].

 

لم يكن حزب الله ليتمكن من خوض معاركه والحفاظ على مكانته الشعبية لولا خدماته الاجتماعية التي يوفرها في مناطق نفوذه[10]، خصوصا في الجنوب اللبناني ذو الأغلبية الشيعية وفي الضاحية التي يسيطر عليها في بيروت، إذ يستغل الحزب ضعف وفراغ الدولة اللبناني المؤسساتي ليملأه بالمؤسسات الاجتماعية التي تتفاوت من المؤسسات التعليمية والصحية وإعادة الإعمار والإغاثة، وصولا إلى قناة المنار التلفزيونية وعدد من الصحف[11]، توفر له شيئا من التمويل، بجانب عملياته غير الشرعية من التهريب وتجارة المخدرات في لبنان وحول العالم كله، وخصوصا في أمريكا اللاتينية.

 

"المقاومة"

عكس خطبة نصر الله وبعدها بما يقارب العشرين عاما؛ كان مكان وزمان الخطبة معروفين تماما، مدينة أم الفحم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، الخامس من (يونيو/ حزيران) عام ٢٠٠٠، بعد عشرة أيام بالتمام من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، لكن المضمون، على عكس خطبة نصر الله كذلك، كان يحمل الكثير من الدلالات و"الإنكارات" الذاتية.

 

جذب الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان قلوب وعقول مئات الآلاف نحو "المقاومة"، ونحو حزب الله تحديدا، وكان من بينهم المفكر عزمي بشارة، الذي كان حينها نائبا في الكنيست الإسرائيلي، وخاض حربه السياسية دفاعا عن الحزب في الكنيست الإسرائيلي، وكان يظهر كثيرا في الإعلام والخطب، ومن بينها خطبة أم الفحم، دفاعا واحتفاء بحزب الله، والتي كلفته في النهاية بعد عام ٢٠٠٦ نفيه إلى الخارج.

 

المفكر الفلسطيني عزمي بشارة  (رويترز)
المفكر الفلسطيني عزمي بشارة  (رويترز)

 

كان بشارة، بحسب ما يروي في حواره المطول في كتاب "في نفي المنفى"[12]، يعلم أن الحزب مرتبط بالحرس الثوري الإيراني وأنه مرتبط رسميا بوكالة أمينه العام الصادرة عن المرشد في إيران، ولكن "القضية"، أي "مقاومة الاحتلال"، والأداء كانا يدفعانه لتجاوز هذه الاختلافات، "إذ أن ثمة آليات إنكار في ذهن الإنسان تجعله حين يركز على الأساس يتجاوز ما يبدو جانبيا"، بحسب تعبيره، خصوصا إن كانت إنكار ما يؤكده الخصم.

 

بعد عام ٢٠٠٠، اقترب عزمي بشارة بشكل مباشر من الحزب بعد زياراته إلى لبنان، وتعرف إليها أكثر، واكتشف مدى تغلغل أصوليته الدينية ودوره في المجتمع اللبناني، إضافة للعامل الأهم، وهو تعامل الحزب السيء مع الفلسطينيين في المخيمات وعدم دمجهم في المقاومة -ما دامت وجدت لمقاومة الاحتلال-، ومع ذلك تعامل بشارة معهم كحلفاء ضمن القضية المشتركة: مقاومة الاحتلال، معترفا أنه "لم ير عمق البعد الطائفي لحزب الله ومدى مركزيته، ولا ولاءه لإيران".

 

بعد عام ٢٠٠٠، كما يرى بشارة، أصبح لحزب الله رصيد عربي وعالمي لا يمكن تجاوزه، وأصبح التعامل معه مربحا بالنسبة للأطراف المختلفة، بما فيها النظام السوري الذي طور علاقته جوهريا بالحزب ليجعله حليفا له. أما بعد عام ٢٠٠٦؛ وفي معمعة الحرب والضحايا، لم يكن من السهل تحديد إن كانت مواجهة إسرائيل بحد ذاتها هدفا أم وسيلة، إلا أن الأحداث التالية كشفت وأجابت هذا السؤال.

 

بدأ حزب الله عام ٢٠٠٦ باستغلال نتائج الحرب لملء الفراغ الذي خلفه السوريون، بينما تمسك النظام السوري بخيار القوة بعد أن انفتح العالم عليه بعد اغتيال رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، ولكونها حركات ودول "شمولية" -تجمع السياسة والمجتمع والدين وغيره في عقيدة واحدة-، فإنها "لا تستطيع أن تختلف مع أحد في إطار تحالف إلا إن كانت ضعيفة، أما إذا قويت فهي تطوِّر علاقتها بالآخرين، لا بوصفهم حلفاء بل أدوات؛ فهم إما أدوات أو خصوم، ولا معنى لحلفاء عندها. التحالف يكون دائمًا موقتًا ومرحليًا ولشراء الوقت في حالة الضعف. وسرعان ما يجري الانقلاب عليه عند تغيير موازين القوى"، بحسب توصيف بشارة.

 

بعد أن هدأت الحرب، جلس بشارة ليفكر كواجب عليه كمفكر في تحولات الصراع وقضية فلسطين وسورية وحزب الله وإيران، وهل كانت قضية فلسطين وسيلة لتثبيت نظام الحكم في سوريا أو تثبيت قوة عسكرية تابعة لإيران في لبنان؟

 

"أحزاب الله"

وسط مقاطع لأسلحة متطورة وعمليات متقدمة بثها "الإعلام الحربي المركزي"، الذي لم يعد حصرا لحزب الله وحده، ضمن نشيد "أهل النصر"، خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بخطاب ناري مخاطبا عناصره: "أنتم الذين صنعتم المعجزة والتاريخ في المنطقة وأسقطتم مشاريع أمريكا وعملاء أمريكا في المنطقة في حرب تموز ٢٠٠٦، أنتم الذين ستسقطون مشاريع التكفير والفتنة والهيمنة في المنطقة كما فعلتم في حرب تموز"[13].

 

يمكن القول إن حزب الله نجح في التحول إلى فكرة بالفعل، ولكن ليس كفكرة للمقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل كفكرة لكيانات عسكرية سياسية إيرانية متوسعة في المنطقة
يمكن القول إن حزب الله نجح في التحول إلى فكرة بالفعل، ولكن ليس كفكرة للمقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل كفكرة لكيانات عسكرية سياسية إيرانية متوسعة في المنطقة
  

يبدو للقارئ والمتابع بداية أن هذه الكلمات تمهيد للحرب الجديدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن الحقيقة هي أن الأنشودة كلها وخطاب حسن نصر الله كله موجه إلى مقاتليه في حلب، إلى "الذين تقمصهم العشق الحسيني فخرجوا من مدنهم وبلداتهم وقراهم في البقاع والجنوب ليدافعوا عن الحق على بعد خمسمئة كيلو متر"، كما يرى.

 

لقد كان تدخل حزب الله الذي أعلن عنه الحزب منتصف عام ٢٠١٣ هو النقطة المفصلية الثالثة في تاريخ الحزب، بعد مشاركته السياسية وحرب عام ٢٠٠٦، فقد كسب الحزب قدرات مادية ودعما ماليا وخبرات عسكرية كبيرة لم يكن ليحصل عليها لولا هذه الحرب، والإشراف الإيراني والروسي المباشر عليه هناك، ليتحول من حركة إرهابية إلى "جيش متوسط الحجم" بحسب ما يصفه معهد الدراسات الأمنية القومية الإسرائيلي[14].

 

إلا أن الخسائر على الجانب الآخر لم تكن الألفي عنصر -الذين قتلوا حتى نهاية ٢٠١٦ في سوريا-، بل الرصيد الشعبي والعالمي الذي بناه الحزب بعد حرب عام ٢٠٠٦، ليتحول الحزب من الأكثر شعبية إلى الأقل شعبية، بحسب استطلاع رأي مركز "بيو" التي أظهرت أن ما يقارب ثلاثة أرباع السكان في كل من مصر وتركيا والأردن باتت تنظر لحزب الله نظرة سلبية.

  

وبين الجانبين، يمكن القول إن حزب الله نجح في التحول إلى فكرة بالفعل، ولكن ليس كفكرة للمقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بل كفكرة لكيانات عسكرية سياسية إيرانية متوسعة في المنطقة، لا تقل سوءا عن الاحتلال الإسرائيلي التي تدعي مواجهته، فلم يعد هناك "حزب الله" واحد في لبنان فقط، بل تم استنساخ هذه التجربة في سوريا والعراق ضمن عشرات المليشيات، أبرزها "أسد الله الغالب"، و"حركة النجباء"، التي أصبحت جميعا أدوات واضحة وعلنية للمشروع الإيراني في المنطقة[15].

 

إذا، لم يكن الخطاب المباشر القديم لنصر الله كافيا وواضحا، بل كانت الأحداث هي الإجابة على أسئلة المفكر عزمي بشارة: "لقد كانت قضية فلسطين عند كثيرين أداة ووسيلة وليست هدفا وغاية، فلو كانت مقاومة الاحتلال هي المبدأ، لا يصبح مقاوم الاحتلال أو حليف المقاومة خائنا إذا اختلفت معه في شأن النظام السوري، وواضح أن فلسطين ليست بوصلة ولا غاية هنا، ولا هي الأساس، فالمحدد الرئيس للمواقف هو السلطة والنفوذ والطائفة وغيرها"، في "الخيانة الكبرى" لفلسطين، كما يسميها، "بإنتاج الطائفية وتكريسها لأغراض سياسية، وتلبيس الطغيان والاستبداد قضية فلسطين"[16].

 

———————————————————————————–

 المصادر:

[1] https://www.youtube.com/watch?v=PhZxadb-0Ng

[2] In Search of Hezbollah

[3] Hezbollah’s Role in Syria War Shakes the Lebanese

[4] Hezbollah’s growing threat against U.S. national security interests in the Middle East

[5] https://www.youtube.com/watch?v=sovsKKnEq94

[6] السيد نصر الله يروي سيرته

[7] حسن نصر الله.. زعيم حزب الله

[8] Having Tea with Hezbollah’s No. 2

[9] Survey: Nasrallah Is the Most Admired Leader in the Arab World

[10] Hezbollah: Social Services as a Source of Power

[11] Hezbollah’s Social Jihad

[12] صقر أبو فخر،  في نفي المنفى: حوار مع عزمي بشارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ٢٠١٧، ص٢٢٧- ٢٣٠.

[13] https://www.youtube.com/watch?v=1-fO0boLdbg

[14] Hezbollah as an Army

[15] Waking Up the Neighbors

[16] صقر أبو فخر، المصدر السابق، ص١٠٢. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.