شعار قسم مدونات

فريد الأنصاري.. الذي رفع القواعد ثم رحل

blogs - فريد الانصاري
من السهل على المتتبع وحتى على غير المتتبع أن يلتقط أسماء كعمرو خالد ومصطفى محمود وعدنان إبراهيم وأحمد الشقيري، ومن اليسير عليه أن يعرض عليك بعضا من أفكارهم أو أن تجده مناصرا منافحا عن أحدهم؛ وقد تتساءل مستغربا عن كيفية صعود نجم هؤلاء في مدة قياسية ووجيزة، على حساب الدعاة الرّصينين والمتفقهين والعلماء العارفين. أهو بسبب تسويق هؤلاء لإسلام سوق على مقاس ثقافة الاستهلاك في مجتمع يعيش على استهلاك كل شيء؟ أم أنهم حقّا ملكوا مفاتيح العلم والدعوة!

الجواب عن هذا السؤال بسيط إذا ما استحضر المتأمل السنن في التاريخ والطبيعة بشكل عام، وهو أن كل ما يصعد بسرعة، يأفل بسرعة؛ وأن كل نار سريعة الاشتعال هي بالضرورة سريعة الانطفاء. في الجهة المقابلة لدعاة السوق هؤلاء، هناك دعاة آخرون شقّوا طريق الدعوة إلى الله وبناء الإنسان بصمت، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا.
من بين هؤلاء الدعاة العلماء، نجد فريد بن الحسن الأنصاري، الخزرجي السجلماسي المزداد في الجنوب الشرقي للمغرب الأقصى، حيث يجتمع صفاء الأرض بصفاء الإنسان. وكما هو متوقع قد لا يعرف القارئ الكريم فريد الأنصاري، ولا أُعمّم، لكن حتى وإن عرفه، فالغالب أنها معرفة قائمة على السماع، لا البحث في علم الرجل ومشروع دعوته ومشروعه في بناء الإنسان.

عاش الرجل بصمت ومات بصمت، لم يعرفه النّاس محبا للمناصب والظهور، ولم يكن كذلك؛ لم يكن يدعو للسياسة بالدين، كما لم يكن يدعو للدين بالسياسة، لم يكن كلّ ذلك؛ وإنما كان يدعو لبناء الإنسان بالقرآن، هكذا كان مشروعه: من القرآن إلى العمران.

دعا فريد الأنصاري إلى بناء إنسان التعليم وإنسان الاقتصاد وإنسان الإعلام، إذ كان يعتبر أن من ملك زمام هذه الأركان الثلاثة صنع السياسة ومن لم يملكها صنعته السياسة
دعا فريد الأنصاري إلى بناء إنسان التعليم وإنسان الاقتصاد وإنسان الإعلام، إذ كان يعتبر أن من ملك زمام هذه الأركان الثلاثة صنع السياسة ومن لم يملكها صنعته السياسة
 

وعلى غرار السنن الكونية، فإن نار الزيت المباركة لا تشتعل دفعة واحدة، وفي نفس الآن، لا تنطفئ بسرعة، إذ لم يُعرف بشكل واسع إلا بعد وفاته، فلم يكن من قبيل موجة دعاة السوق التي غمرت ولا زالت تغمر عقول ونفوس الشباب، وإنما كان ممّن قالوا "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" إبراهيم 12.

كتب في القرآن وعن القرآن بالقرآن، فكتب مجالس القرآن وهو كتاب يدعو إلى تدبّر القرآن على منهاج رسول الله، كما لو أنه أُنزِل لأول مرة، على ذلك المتدبر، إذ كان يردد أن القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ذات القرآن الذي يُتلى اليوم لكنه لا يقدّم نفس المفعول الذي كان، والذي به كُتب التاريخ وصنعت به الجغرافيا، تاريخ التاريخ وجغرافيا الحضارة التي لم تكن وكانت بالقرآن، وذلك لغياب الإنسان بالمعنى الذي كان، كان يشبه القرآن بالماء وهو التشبيه الذي يطّرد في القرآن نفسه، لكنه كان يقدم تفصيلا عن ذلك باعتبار الماء الذي يُنزل من السماء إلى الأرض ماء واحد، لكنه يخرج من الأرض إما عذبا حلوا باردا أو حارّا أجاجا، أو ساخنا نارا، وذلك على اعتبار المسيرة التي سار بها في الأرض حين دخوله إليها، فكذلك كان يشبه القلب المتلقّي للقرآن.

كتب ‘‘بلاغ الرسالة القرآنية: من أجل إبصار لآيات الطريق‘‘، وهي كما تبدو رسالة تدعو إلى المنهج القويم، كما كتب في عماد الدين، كتاب ‘‘قناديل الصلاة: مشاهدات في منازل الجمال‘‘ وهو عنوان ينمّ عن رقة في تذوق معاني الدين، وهي المعاني التي انحبس تلقّيها في العالم المعاصر المتّسم بالجفاف الروحي والانكباب على الثقافة المادية الجافّة.

كان فريد الانصاري رجل تواضع، فلم يُعرف عنه دعوة إلى استصنام آرائه أو اعتبار نفسه صاحب مشروع، حيث يذكر في نهاية أطروحته قولا عجيبا تُشد إليه الرحال في التربية على التواضع العلمي

ولأن لم يكن يرى الدين حكرا على جماعة دون أخرى، ولأنه لم يكن يضيّق واسعا، ولأنه كان يدعو إلى الفطرة "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ" الروم 30، فقد كتب ‘‘الفطرية بعثة التجديد المقبلة: من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام‘‘، الذي اعتبره إثباتا لأمرين اثنين أشد ما يُحتاج إليها في العالم المعاصر؛ وهو أن طبيعة التدافع الحضاري بين الأمة خصومها قد دخل مرحلة أخرى من تاريخه، مرحلة ذات اختلاف كمي ونوعي؛ حيث صار الرهان الغربي اليوم قائما على تدمير الفطرة الإنسانية في الأمة، علاوة على أن العمل الإسلامي، من جهة ثانية، لن يمكنه الاستجابة لهذا التحدي الحضاري الجديد إلا بتجديد نفسه أولا.

دعا إلى بناء إنسان التعليم وإنسان الاقتصاد وإنسان الإعلام، إذ كان يعتبر أن من ملك زمام هذه الأركان الثلاثة صنع السياسة ومن لم يملكها صنعته السياسة على مقاسها. لقد خلُص إلى أن العمل الإسلامي، للأسف، يشغل حاليا حول النص، بينما يجدر به أن يشتغل بالنص وفي النص، ويدعو إلى النص، إذ النص حاليا عند بعضهم شعار، والحال أنه يجب أن يكون المدار، يؤدي الدخول في محيطه إلى ابتلاء عملي للنفس، وسلوك تطبيقي في المجتمع.

فريد الأنصاري كان رجل مفاهيم، حاول نقد المفاهيم التي استصنمها الناس دون وجه حق أو أساس علمي أو شرعي، إذ كان يدعو إلى التجديد من الداخل، بأدوات علمية شرعية دون تلك المهاترات الاستهلاكية المستهلكة التي تشتعل بسرعة لتموت أسرع، إذ كانت أطروحته العلمية حول ‘‘المصطلح الأصولي عند الشاطبي‘‘ صاحب الموافقات الذي انتقل بأصول الفقه من قصد البيان إلى بيان القصد، وهي أطروحة تعبّر حقا عن تمثله للعلم وقضية التجديد التي ما أحوجنا إليها في ظل اختلال المفاهيم، ومرد ذلك لديه أن البحث في المصطلح الشرعي فهما أو تجديدا؛ بحث في صلب الدين نفسه فهما أو تجديدا، وإنما تجديد الدين يكون بتجديد العلم أولا؛ لأن العلم أساس العمل، إذ كل اجتهاد في الأول يُنتج حركة في الثاني.

وقد كان رجل تواضع، فلم يُعرف عنه دعوة إلى استصنام آرائه أو اعتبار نفسه صاحب مشروع، حيث يذكر في نهاية أطروحته قولا عجيبا تُشد إليه الرحال في التربية على التواضع العلمي، يقول: هذا وإني لا أزعم أني جئت في هذا البحث بإبداع متحرر على التمام من ربقة الاتباع، وإنما الإنشاء على غير مثال في حق غير البارئ، ضرب من ضروب المحال، ثم يمضي ليعتبر أنه ‘إن كان لي فيه من نتيجة أدخرها لخصوص نفسي، وأعتز بها إذا خلوت إلى نظري وحدسي فهي شعوري بأني بدأت أتعلم‘.
هذا حالهم، يرفعون القواعد ثم يرحلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.