شعار قسم مدونات

"وعملت إيه فينا السنين"

blogs - woman girl alone sad

ما يجمعنا بالأماكن الذكرى، التفاصيل الصغيرة التي تغمرنا ونحنُ نفصّلها من جديد ونوضبها في صناديق لا تمتلئ لأحلامنا لمغادرتها لبداية النهاية التي -الله أعلم- إلى أي مفرق ستأخذنا، استمع إلى ماجدة الرومي وهي تكررُ في أغنيتها:

ما كنت قول نْهار بتْفلّي، ويخلص الصبح وْتنعَس الفلّه!
واتطلّع ولاقي قبالي البابْ، راكع على العَتبه عم يْصَلّي!
ويصيرْ يسألني عندْ لغيابْ، أيْمتينْ بدِّك ترجعي تْطلّي؟؟

 

لستُ ممن يتمسكُ بالأشخاص بقدر ما أتمسكُ بالأشياء، لا أتذكر في الأماكن التي عشتها إلا أوقات الاستعداد للسفر أو الأرق.. لكن هذا الأخير شهد فصلين كاملين وحمل معه الكثير والكثير من الذكريات الجميل منهَا والرائق، وكم أتألم لرؤية أن آخر بعدي قد يعيش ما عايشتهُ، كيف يكون سهلاً أن نقول فجأة "لقد أصبح كل شيء من الماضي، لقد تغيرّ الزمن"!

 

أنا إنسانة أغرق في الذكرى -ومن منّا لا يفعل- فهي من معضلات جيل الألفية، ويبدو أن كثرة التذكر والالتفات إلى الماضي نابعة من اعتقدنا -ولسنا بالضرورة واهمين- بأن فرصاً أو حظوظاً قد فاتت ولا سبيل لاستدراكها، وأنها من الجمال والروعة والثراء بحيث لا يمكن أن تتكرر، أي أنها مسرّات انطوت ومضت فلن تعود أبداً، ولذا فنحنُ -والحالُ هذه- لن نرى في مُضِي الأيام إلا نزوحاً موجعاً وابتعاداً لسالفٍ عزيزٍ على القلب، فيبدو الحاضرُ كالموج الحائل دون جزيرةٍ الأحلام، فكلما أوغلنا في الزمن هاجَ الحاضر ورمى بنا بعيداً.. بعيداً عن تلك الجزيرة.

  

كل شيء في الحياة مقدر لك وكل حدث هو حاجة ملحة. كل أمر نمر به من فرح أو حزن، من سلم أو حرب، من حب أو كره، هو نفسٌ من أنفاسنا لو لم نمرّ به لاختنقنا وعدنا إلى العدم..

   undefined

 

لكن من أهم العبر التي استوقفتني في حياتي أن الفرج يأتيك من حيث لا تحتسب، فإن أعظم الألم المبرّح هو أن تمتلئ نفسك بما يشبه "اليقين" بأن ما فات لا يمكنُ استدراكه، وأن البديل المفترض الذي تتطلّعُ إليه لا يمكنُ أن يكون إلا عين "المبدل منه"، أي أنه لا بديل إطلاقاً، ما يعني أن باب الأمل والرجاء قد سُدَّ تماماً، فلا خلَفَ ولا عوض مما فات، فتكتمل شروط اليأس، وتتأبدُ المرارة.. وهذا ما ليس صحيحاً ألبته، لأننا بذلك قد وقعنا في خطأ توقّع وتحديد مداخل الفرج، فهذا الاستشراف أو التطلّع لا يمكن أن يمدَّ ناظريه سوى إلى المعروف -سلفاً- لديه. أما ما ليس خاطراً بالبال فلا يلوحُ في الخيال، لأن الخيال مأسور محتَبسٌ لذاك الأمل الفريد المنتظر، أي أن التمني هو الخادع الماكر المختبئُ في الأمنية نفسها، فإذا ماتت تلك الأمنية خارت قدرتنا على التمني، لكن إن تفطّنا إلى أن الأيام حبلى دوماً بما سيصيرُ لاحقاً أمنيات، أمنياتٌ من نوعٍ وشكل وطبيعة أخرى ربما، أي أنها لا تخطر على بال كسير ماضيه الآن.
 

"كنت أفكر وأنا أرى الشاطئ يضيق في مكان ويتسع في مكان آخر شأن الحياة تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى!"

(الطيب صالح)
    

ما أنا "متقينٌة" منه تماماً، إننا كأديم الأرض معبرٌ للربيع والصيف، لا ربيعنا يبقى، ولا صيفنا يدوم، فما أعشبتْ إلا لتضمحل، وما اضمحلّت إلا لتعشب، كما قال المنفلوطي " أن لكل امرئ في الحياة يومين: يوم بؤس ويوم نعيم!"ولذا فإن الميت حقاً هو من فقدَ قدرتَها على الأمل والتمني، أي الإنبات، فما الحياةُ إلا أمنيات تتجدد، تموتُ لتحيا، وتحيا لتموت.. وهكذا.

 
لنتأمل أنه كثيراً ما يكون الرجوع إلى الماضي والتحسر عليه نوعٌ من الاحتجاج على الحاضر، أذكر رجلاً يقول: "إنني إن ضاق بي كنتُ أذهب لقبر أخي فأبكي عنده طويلاً".. لكأنما يشكو له جور الزمان والناس، ويستعيدُ عند ضريحه أمجاداً ربما رأى أنها قد دُفنت معه، مع أن الأصل في زيارة القبور هو الدعاءُ والترحّم على الميت لا بثِّ الشكوى له، ويبدو أننا نفعل شيئاً أحمقاً كهذا مع ماضينا الذي اخترمته المنيّة، فهذا كالمدفوع إلى المقبرة من الخارج لا المجذوب إليها من الداخل، لمّا حاصره الحاضر لجأ إلى الماضي المطمور في القبر، للميت رمزية معينة، تعني أنه قد بات أكثر من شخص عزيز، بل هو زمنٌ غابرٌ عزيز، وتأتي الشجاعة في أن نجاهد لنظلَّ آملين متطلعين، كالأرض التي تردُّ على الصيف بالربيع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.