شعار قسم مدونات

سعداء عبر الفيسبوك.. تعساء في الواقع

Blogs- mobile

"عش ليومك لا لحلمك ، كل شيءٍ زائل" محمود درويش

      

فكرت البارحة في تغيير صورة الحائط لدي عبر الفيسبوك كما يفعل الكثيرون، لإضفاء لمسة جديدة ربما أرفق صورتي الشخصية بها هذه المرة، ثم وجدت الفكرة يلزمها بعض التخطيط والعمل وذلك إلهاما بما يفعله أصدقائي عندما يضيفون صورة جديدة أو تعليق جديد، يلزمني مثلا صورة بثياب أنيقة تواكب ما تنشره صديقاتي ممن في عمري لكي أبدو جميلة ولم أتغير كثيراً ويلزمني أيضا أن أختار موقعا للتصوير.

 

فكرت الأفضل أن يظهر أنني مسافرة لدولة ما كي يضيف حركة وضجة للصورة رغم أنني لست ممن يفضل نشر رحلاته أو تنقلاته ولكنها متطلبات الصورة فبهذا ينشر الأغلب صوره، كما يجب أن أبدو مشرقة وتعلو الابتسامة وجهي كي يعلم الجميع أنني سعيدة وبهذا أنال عدد كبير من الإعجاب والتعليقات وأصبح نجمة الفيسبوك بالنسبة لصديقاتي عبره لعدة أيام، فكرت بتفاصيل كثيرة وجدت حينها المهمة غريبة، لأن صورة عفوية لن تلقى اعجابا إذا ما قورنت بكل العناء الذي سأمر به لأجل التخطيط لصورة حصرية بالفيسبوك وليست عفوية كتلك التي التقطها مع عائلتي يوميا لنحفظها للذكرى.

 
تنبهت إلى أن أغلب الصور التي يظهرها الناس على حساباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي يغلبها الطابع السينمائي، يظهرون فيها أنيقين جدا ولا تتكرر ثيابهم رغم تكرار الصور وتظهر حياتهم ملونة جميلة فهم ينشرون صورهم في مناسباتهم السعيدة أو عند ذهابهم إلى مطعم أو محلقين بطائرة يبدو البحر تحتهم ساكناً والنوارس غافيةً والغيوم في أفقهم ساحرةً، مشاهد نراها دائما عبر حساباتهم الاجتماعية فترف قلوبنا لذات النعمة التي هم بها ونغبطهم بل ويتحرك أحياناً الشر الساكن فينا فنحسدهم لكمال النعمة، ثيابٌ جميلة وفاخرة وسياراتٌ تصطف أمام بيوتهم ثم أفراحهم وموائد المطاعم الراقية وتذاكر السفر التي تزيد القلب غصة وتوقظ مارد الأحلام المتشبث بألوان الحياة، حياةٌ جميلةٌ فيها الكثير ليُنال ولكن القليل منها يطال.

     

نعتقد حينها أن هؤلاء تغمرهم النعم لا يعرفون غيرها وقتها ننسى كل ما ملكنا لأجل ما يظهر هؤلاء، يتفننون في إظهار كمال حياتهم فننسى ونحن نراقب صورهم وحياتهم ورفاهية منشوراتهم أنهم يزخرفون الصورة لا أكثر، خلف هذه الشبكات الإلكترونية للتواصل الاجتماعي تقبع الحقيقة صامتةٌ تغطى وجهها بقناع ما يجب أن يراه الآخرون فننسى أن في حياة الكثير منا الآلام والمواجع وفي قلوبنا سلالٌ مترعةٌ من الأمنيات، هذا يحلم بالسيارة التي يمتلكها ذاك وتلك تحلم بالطفل الذي تحمله أخرى وشابةٌ تنتظر شريك العمر الذي وجدته صديقتها وشابٌ يتمنى وظيفة الأحلام الذي درس وكدّ جاهدا لأجلها وغيرهم الكثير ممن يتمنى نعم الله على غيره غافلاً عما أكرمه به الله، طامعاً في المزيد وناسيا أن يحمده عز وجل على ما أعطى.

 

نحن في عمق الصورة بشر لا نمتلك قوة الصورة الجميلة التي نُرى من خلالها، فلماذا نشدّ على جراح غيرنا فنذيقهم من الوهم سماً وننسى أن نخبرهم من لوقت لآخر أننا لا يمكننا أن نختصر السعادة في صورة لنا
نحن في عمق الصورة بشر لا نمتلك قوة الصورة الجميلة التي نُرى من خلالها، فلماذا نشدّ على جراح غيرنا فنذيقهم من الوهم سماً وننسى أن نخبرهم من لوقت لآخر أننا لا يمكننا أن نختصر السعادة في صورة لنا

          

كان في ما مضى ملكٌ عظيم له قصره الفسيح وكنوزه الوفيرة ولا ينقص حياته شيء سوى أن يشعر بالسعادة، فاستدعى الملك حكيم القصر وطلب منه أن يساعده للشعور بالسعادة، فأشار عليه الحكيم أن ينام ليلة واحدة بقميص رجل سعيد، فأرسل الملك يبحث في أرجاء المملكة عن رجل سعيد فلم يجد أحداً وكان لكل فرد سبب للتعاسة إلى أن وجد أخيراً متسولاً يجلس على جانب الطريق دائم الابتسام وذكر الله ويقول أن السعادة تملأ قلبه وعندما طلب منه وزراء الملك قميصه لكي ينام به الملك ليلة واحدة فيصبح سعيداً، ضحك المتسول وقال: ليس لدي أي ثياب أو قميص حتى!

 
نحن نوهم الآخرين بأننا سعداء كي يتقبلونا وننسى في خضم محاولاتنا لتزييف الصورة أن نكون حقاً سعداء، نحن نلبس السعادة قناعاً مزركشاً ونلون حياتنا بجوانبها التي تُرى أما في الخفاء لا نبدو كذلك، نحن نبكي ونتألم، نصاب بالمرض، نتزوج ونفترق، نغترب، نفقد أحبتنا، نستقرض المال فنعيش في ذل الدين أحياناً، لا نجد وظيفة، لا نستطيع أن ننجب طفلاً، لا يغفو لنا جفن أرقاً ومرضاً، لا نرد ميتاً إلى الحياة.

      

نحن في عمق الصورة بشر لا نمتلك قوة الصورة الجميلة التي نُرى من خلالها، فلماذا نشدّ على جراح غيرنا فنذيقهم من الوهم سماً وننسى أن نخبرهم من لوقت لآخر أننا لا يمكننا أن نختصر السعادة في صورة لنا، نحن نختلف في سعادتنا، ليس لأن جميعنا تعساء بل لأننا نختلف في تصورنا لها وفي إحساسنا بها، ولكن فلنتجنب أن نشدّ على أوتار قلوب غيرنا المرهقة ولا نؤرق مضجعهم، فإن لم نمتلك أن نسعد غيرنا فلنكن سعداء بصمت كي لا نجرحهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.