شعار قسم مدونات

مقاولاتية النهضة الحضارية

blogs - مالك بن نبي

الحضارة هي التي تلد منتجاتها، بهذه العبارة عرف مالك بن نبي أكبر مشكلة عرفتها البشرية في كتابه شروط النهضة، ليواصل فيلسوف الحضارة مسترسلا أن العالم الإسلامي دخل صيدلية الغرب باحثا عن الحضارة، لكنه لم يجد لا مرضه ولا نوعية دواءه، مما جعله في أحسن الأحوال لا يأخذ إلا المسكنات لأمراض استفحلت في جسده، حيث يرى أنه من العبث أن نحاول الفصل بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية التي نريد تكوينها، لكن في المقابل لا نستطيع أن نستورد من الغرب كل آلياته التي بلغها، لأنها لا توافق بعدنا الفكري.

 

فلن نستطيع أن نؤثر على عالم الأشخاص بالمنتجات الكيفية سواء تعلق الأمر بروح الحضارة، أفكارها، ثرواتها الذاتية، أذواقها وغيرها، فهي منتجات خاصة بتلك المجتمعات لا يمكن لنا كمسلمين أن نستعملها إلا استهلاكا، لكن هذا لن يبني حضارة، مما جعلنا مجبرين على البحث عن آلياتنا ومنتجاتنا الخاصة بنا، الحضارة لا تقوم على التكديس من خلال استيراد كل ما تنتجه الحضارات الأخرى بل الحضارة تقوم على بناء منتجاتها الخاصة، والتي لا تكون إلا بتركيب وتفاعل الإنسان، التراب، الوقت.
 

الاستعمار المخدر والعلم محطم الأصنام

لقد كان الاحتلال الغربي للدول العربية من بين أهم العوامل التي جعلت هذه الدول في مصاف المتخلف، فالمستعمر لم يكن يريد لمستعمراته أن تتطور فكريا وثقافيا، بل كان يريدها قواعد خلفية تمده بالمواد الأولية ويجعلها سوق لتصريف الفائض من إنتاجه، أو مكان لاستعباد أقنان جدد، لهذا حاول تحريف الأفكار الصحيحة للشعوب، وأهم ما حاول تحريفه كان الدين الذي يعتبر أهم خزان لعالم الأفكار الخاص بالدول المستعمرة، حيث زرع البدع والمنكرات واستغل الكثير من المفاهيم الإسلامية بشكل خاطئ فأشاع مثلا أن الاستعمار قضاء وقدر، لا يمكن للإنسان تغييره وهو ما جعل هذه الشعوب تدخل في سبات عميق كادت أن لا تخرج منه، إلا أن ظهور علماء ربانيين كان هدفهم زرع الوعي بين الناس، مما عجل بتغيير الأحوال.

 

أكبر مشكلة عانت منها الأمة هي عدم استيعابها للمشكلة الاقتصادية، وهو ما جعل المجتمعات المتخلفة عامة والمسلمة معرضة لما سماه مالك بن نبي بصبيانية الاقتصادية

ورغم نبوغ العديد من الشخصيات الإسلامية إلا أنها لم تستطع أن تعالج مرض الأمة بل ذهبت تعالج الأعراض، فالحل يكمن في التشخيص الصحيح للمرض ومعالجته بالدواء المناسب، لا في التوجه لصيدلية الغرب واستيراد مسكنات للآلام التي تعاني منها الأمة، فهذا ليس حلا للمشكلة بل محاولة لتهدئتها، وتهدئة البركان لا تعني بالضرورة منعه من الثوران، ولا مفر من بناء الحضارة على الإنسان والتراب والوقت دون إغفال المفعل الذي يحرك العملية والذي وصفه مالك بن نبي في الفكرة الدينية.

الجوهر الاجتماعي وعالم الاقتصاد

إن ابتعادنا عن تطوير عالم الأفكار لدى المسلم، من خلال البحث والتنقيب عن الأفكار الأصيلة جعله مجرد مقلد لعالم الأشياء لدى المستعمر، وهو ما انسحب حتى على النخبة الاقتصادية المسلمة حسب فيلسوف الحضارة، فلم يخرج هؤلاء المنظرين من ثنائية الاشتراكية والليبرالية، كوصفات تم تبنيها من أجل محاولة بناء اقتصاد قوي، لكنها لم تأخذ بعين الاعتبار المعادلة الاجتماعية للشعوب المسلمة، وهو ما جعلها تراوح مكانها اقتصاديا بفشل ذريع يحاكي فشل شاخت الذي نهض بالاقتصاد الألماني وفشل حين وصل للاقتصاد الإندونيسي، لهذا فإن مالك بن نبي يرى أن أساس الديناميكية الاقتصادية هو الجوهر الاجتماعي، والذي لن يتحرك إلا بتفعيل الهندسة المالية الإسلامية.

لقد أقر مالك بن نبي بعجز المفكرين المسلمين على التأقلم مع متطلبات عصرهم، وعدم خوضهم في بناء نظرية فكرية صالحة لواقع ملائم للمجتمع الإسلامي، لتشبعهم في ما عبر عنه بن نبي بمصطلح الزهد، فيرى أن هذا المفهوم يعبر بدقة عن عمق العقلية الشرقية المسلمة، التي ترى أن التوكل هو ترك كل شيء للخالق، دون التفكير في الأخذ بالأسباب، متوهمين أن النصر يأتي لأنهم مسلمون لا أكثر، عكس المنفعة الرأسمالية والحاجة الشيوعية الماركسية التي اشتغل أصحابها لتطويرها ودعمها، الأمر الذي خلق تنافرا اجتماعيا، كما سماه مالك بن نبي بين الزهد الاسلامي المنفعة الرأسمالية والحاجة الماركسية.

 

حالة جعلت الاستقلالية الاقتصادية حلم بعيد المنال في الدول المستقلة سياسيا، ولعل عدم التقدير الجيد لقيمة الوقت لدى الدول المستقلة حديثا زاد الطن بلة، وخلق هوة أوسع بين النهضة وإنتاج منتجات الحضارة، ولعل هذا ما جعله يقول في كتابه المسلم في عالم الاقتصاد:

" … أي فن اجتماعي أو مبدأ اقتصادي لا يمكن أن يكون صادقا إلا إذا وجد في وضع لا يتعارض فيه مع عناصر المعادلة الشخصية السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه … ". حيث يؤكد في هذا السياق أن نجاح الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ارتبطت بشكل وثيق في التوفيق بين قدرة لينين على غرس الفكر في ضمير طبقات الشعب وعلم ماركس الأمر الذي ولد ما شبه الصدمة الاقتصادية.

إن أكبر مشكلة عانت منها الأمة هي عدم استيعابها للمشكلة الاقتصادية، وهو ما جعل المجتمعات المتخلفة عامة والمسلمة معرضة لما سماه مالك بن نبي بصبيانية الاقتصادية (economisme) وهي فكرة حاول بن نبي أن يعبر بها على حالة الاستهلاكية للأشياء المنتجة من الحضارة الغربية، ودفع تكاليف هذه الأشياء من تصدير المواد الأولية، فلا يمكن لمجتمع أن يصنع نهضته الاقتصادية بالتراب والإنسان والوقت فقط، إن لم يعمد إلى تغيير العامل الثقافي الذي يعتبر العامل الديني من أهم محركاته، بعيدا عن الإباحية الرأسمالية، شيوعية الاشتراكية أو محاولة أسلمتهما، إن الكثير مما سبق جعله يقر أن :"الإمكان الاجتماعي هو الذي يقرر مصير الشعوب والمجتمعات والدول … "

فالعالم الاسلامي ليس بيده أن يغير أوضاعه الاقتصادية إلا بقدر ما يطبق خطة تنمية تغير أبعاده النفسية وتخلصه من تركة عصر ما بعد الموحدين، وهو ما يجب المجتمع أن يجعل الإنسان محورا لعملية التطوير للحصول على النهضة الاقتصادية التي نرغب بها.

  

وضع مالك بن نبي مجموعة من الضوابط لحماية العقل من الاستغفال والاستحمار حيث طالب بعده كل من قرأ له وآمن به أن يبحث عن الأفكار الحية المثمرة وإن كانت عند العدو كدلالة على الانفتاح ونبذ الانغلاق
وضع مالك بن نبي مجموعة من الضوابط لحماية العقل من الاستغفال والاستحمار حيث طالب بعده كل من قرأ له وآمن به أن يبحث عن الأفكار الحية المثمرة وإن كانت عند العدو كدلالة على الانفتاح ونبذ الانغلاق
 

كلما تحدثنا عن فكر مالك بن نبي وفعاليته، نطق متحمس ليقول، أن فكر الرجل هو من أقام نهضة ماليزيا وساهم في نهضة تركيا، وكلما سألت أو بحثت عن الطريقة التي طبق بها الأمر، ندرت الإجابات إن لم تنعدم، وهذا أمر عادي في نظري لاختلاف مستوى متتبعي فكر مالك بن نبي، بين من سمع عنه، ومن قرأ له كتابا أو كتابين، وبين من درس أفكاره بعمق وحللها وفق منهج أكاديمي صرف لا يمكن لأحد أن يقلل من قوة أفكار مالك بن نبي، أو تفرده في الطرح والمنهجية، فتقسيمه للأفكار والعوالم ومعادلته للنهضة وتفصيله لقابلية الاستعمار، كلها أفكار تنم عن عبقرية لا نقاش فيها.
 

إلا أن المتعمق في هذه المفاهيم، سيجدها متغيرات كلية تخص مهندس نهضة يعمل على تخطيط لمشروع طويل الأمد (كمهاتير محمد، أو الطيب رجب أردوغان) هذه المفاهيم تخدم مسؤولا بصدد إعادة توجيه بوصلة مجتمع تاه في عالم الأفكار الميتة والمميتة، مجتمع تفرق مثقفوه في مزالق جدلية حطمت بداخلهم قدرة زرع الحياة في الأفكار التي يحملونها لتخمة فكرية ابتلوا بها، لأنهم كما يقول بن نبي توقفوا عن القراءة بعد الخروج من الجامعات.

 

إن عشاق فكر مالك بن نبي وقعوا في ما حذر منه عرابهم وهو التقوقع على فكره وحصر جهودهم في دراسته، رغم أن أهم ما قدمه مالك بن نبي هو منهاج لغربلة الأفكار التي يستطيع المثقف العثور عليها أو التعثر فيها طيلة حياته، فوضع مجموعة من الضوابط لحماية العقل من الاستغفال والاستحمار وفق منهج علمي جدي واضح، منهج طالب بعده كل من قرأ له وآمن به أن يبحث عن الأفكار الحية المثمرة وإن كانت عند العدو كدلالة على الانفتاح ونبذ الانغلاق.

 

إلا أن كل من يقرأ لمالك بن نبي يعرف جيدا أنه شدد على دور الفكرة الدينية الأصيلة وقوتها في مزج متغيرات معادلة الحضارة وقيامها، وكأنه بما قدم توقع وصول الأمة الإسلامية إلى مزلق تتعارض فيه طوائفه لدرجة التنابز وحتى التقاتل، والحل في هذه المرحلة العودة إلى المعايير التي ابتكرها بن نبي من أجل تصنيف هذه الأفكار على حسب فعاليتها وقدرتها على التطبيق، إن فيلسوف الحضارة أسس لإطار عام شامل غير إقصائي منفتح قادر على احتضان كل ألوان الطيف تحت ظل معاييره، لكن أتباعه قصروا في حق منهجه وعالميته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.