شعار قسم مدونات

الإيمانُ بالله ضرورة عقليّة!

Blogs- mosque

"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد"، بعدَ أن تبيّنا في المقال السابق "كيف نظر الإسلام إلى العقلِ؟" مفهومَ العقلِ ووظيفتهُ في الإسلام، نتبيّنُ في هذه المقالةِ الطّريقَ العقليَّ السّليمَ لمعرفةِ وجودِ الله، تعالى، والذي دلّت عليهِ نصوصُ الوحيينِ الشّريفين، وإنّما اضطررنا لذلكَ حينَ نازعنَا طوائفُ من النّاسِ في هذا الأصلِ العظيمِ من دينِ الإسلامِ الحنيفِ، وإلّا لما احتجنا بيانَ الشّمسِ لولَا الرّمدُ الذي أصابَ عُيونَ الناس.

 

الإيمانُ بالله، تعالى، دعوةُ الرُّسلِ كلّهم في كلِّ زمانٍ ومكان، قد تعدّدت طرُقهم في الدّعوةِ لهذا المطلبِ الجليلِ باختلافِ أحوالِ النّاس والأمصارِ. ولبيانِ دعوةِ الرُّسلِ، في ذلكَ، نُقدِّمُ بمُقدّمتين: الأُولى، أنَّ القُرآنَ الكريمَ قد اشتملَ على كلِّ السُبلِ الواضحةِ والجليّة (العقلبة) الموصلةِ لمعرفةِ الله، تعالى، وذلكَ بضربِ الأمثالِ والدّعوةِ للتّفكّرِ بما يُناسبُ الفِطرَ فلا تنفِرُ منهُ النّفوس وبما يُلائمُ العُقولَ فلا تَصدِفُ عنه. الثانية، أنَّ كلَّ ما لم يدلَّ عليهِ نصٌّ من الوحيينِ الشّريفينِ، ولو على طريقِ الإجمالِ، على وجودِ الله، تعالى، وربوبيّتهِ باطلُ الدّلالةِ مُضاربٌ لأصلٍ آخَرَ في الوحيين، وكما قيل: الدّليلُ الشرعيُّ لا يُقابَلُ بكونهِ عقليّا وإنّما بكونهِ بدعيًّا.

     

أوّلُ الطُّرُقِ التي دعتِ إليها الأنبياءُ هي التّفكُّرُ في الخلقِ، أي في المخلوقاتِ وترابُطها فيما بينها، وذلكَ بالنّظرِ في وجودها ومراتبها، لإثباتِ وجودِ الربّ، تباركَ وتعالى، وفي ذلكَ قالَ الله تعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ"، الشورى 29. فإنَّ الله، عزّ وجلّ، نصبَ لنا في هذا الكونِ آياتٍ دالّةً عليهِ ومُوصلةً عبرَ التّفكُّرِ إلى معرفةِ أنّهُ خالقٌ كلِّ شيءٍ بحكمةٍ وعِلم. وأوّلُ طريقٍ في ذلكَ أن نعلمَ أنّ الموجوداتِ نوعان: قديمٌ ومخلوقٌ (أي موجودٌ بعدَ أن لم يكُن موجودًا)، وذلكَ ما دلَّ عليهِ قولُ الله تعالى "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون؟".

        
والنّظرُ في المخلوقاتِ يوجِبُ معرفةَ المُوجِدِ (الخالق) لها، لأنّ هذه الموجوداتِ (المخلوقات) كانت معدومةً في وقتٍ ما، ويستحيلُ أن ننتقلَ من العدَمِ إلى الوُجودِ بدونِ موجِدٍ، فلابدّ لكلِّ مصنوعٍ من صانعٍ كما هو حالُ البناياتِ التي يلزمُها بانٍ والهواتفُ التي يلزمُها صانعٌ وغيرُ ذلكَ ممّا يُعلمُ بالحِسِّ (المُشاهدةِ)، وهذا بديهيٌّ. ومعرفةُ الآياتِ الدّالةِ تُوجِبُ معرفةَ عينِ المَدلولِ (الله، تباركَ وتعالى) كما أنّ الشّمسَ آيةُ النّهارِ توجبُ العلمَ بطلوعِ النّهارِ، قالَ الله تعالى " وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنَا آيَةََ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة"، الإسراء 12. هذا يُوجِبُ على العاقِلِ النّاظِرِ في الموجوداتِ أن يجزمََ بأنَّ لها خالقًا وصانِعًا برأها وأوجدها من العدم.

   

فضلَ الله، تعالى، على المخلوقِ أعظمُ من فضلِ المخلوقاتِ على بعضهم البعضِ، وهذا يُبيِّنُ أنَّ ما يثبُتُ للرّبِّ أعظمُ من كلِّ ما يثبتُ لسواهُ بما لا يُدركُ قدرُهُ
فضلَ الله، تعالى، على المخلوقِ أعظمُ من فضلِ المخلوقاتِ على بعضهم البعضِ، وهذا يُبيِّنُ أنَّ ما يثبُتُ للرّبِّ أعظمُ من كلِّ ما يثبتُ لسواهُ بما لا يُدركُ قدرُهُ
 

ثاني الطُّرقِ التي سلكها الأنبياءُ للتّدليلِ على ربوبيّةِ الله، تعالى، هي -ما يُسمّىى في علمِ المنطقِ بـ قياسِ الأَولَى، أي أن يكُونَ المَقيِسُ (الله، تعالى، هنا) أولى من المَقيِسِ عليهِ (المُشاهَدُ من آياتِ الله المنصوبةِ على الأرضِ)، وذلكَ في التّدليلِ على أنّهُ يُثبَتُ لهُ من صفاتِ الكمالِ التي لا نقصَ فيها أكملَ ممّا علمناهُ ثابتًا لغيرهِ، ولا مانِعَ من أن لا تضبطهُ عقولنا -أي الفرق- فإنّنا نعلمُ من التّفاضُلِ بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ ما لا ينضبطُ عندنا، وكذلكَ نعلمُ أنّ فضلَ الله، تعالى، على المخلوقِ أعظمُ من فضلِ المخلوقاتِ على بعضهم البعضِ، وهذا يُبيِّنُ أنَّ ما يثبُتُ للرّبِّ أعظمُ من كلِّ ما يثبتُ لسواهُ بما لا يُدركُ قدرُهُ.

  
فكانَ القياسُ يُفيدُ أمرًا يختصُّ به الله، تعالى، مع علمنا بجنسِ (المشترك) هذا الأمرِ، كالعلمِ نعلمُ معناهُ ونتصوّرُ تفاضُلَ المخلوقينَ فيه، ونثبتُهُ للخالقِ المُوجِدِ للمخلوقاتِ من بابِ أولى بقدرٍ لا تستطيعُ عقولنا الإحاطةَ بقدرهِ وكُنهنهِ ولا يضرّ، كما بينّا. وكذلكَ كلّ أسمائهِ، تباركَ وتعالى، وصفاتهِ. ومثالُ ذلكَ قولهُ تعالى "وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ"، الأنعام 133، فقاس النّظير على نظيرهِ، وبيّن أنّ القدرة على إذهاب هؤلاءِ كالقدرة على إذهاب أولئكَ، فإنّهم ساووهم في الأعمالِ والعلّةِ فساووهم في الحكم والعاقبة، وغيرُ ذلكَ من الآياتِ الدّالةِ في القرآنِ كثيرٌ جدًّا. وهذا القياسُ لا يُستعملُ إلّا إذا علمنا ما اختصّ بهِ الربُّ تباركَ وتعالى، عن غيرهِ من مخلوقاتهِ، فهو فرعٌ عن مدلولِ الآياتِ التي تُبيّنُ ما يختصُّ به الربّ، تقدّست أسمائهُ.

 
وأخيرا أختمُ هذا بما يرويهِ الحسنُ البصري، رحمه الله، عن بعضِ أصحابِ النبي، صلى الله عليه وسلّم، أنّهم كانوا يقولون: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا الرَّفِيقِ الَّذِي لَوْ جَعَلَ هَذَا الْخَلْقَ خَلْقًا دَائِمًا، لا يَتَصَرَّفُ لَقَالَ الشَّاكُّ فِي اللَّهِ: لَوْ كَانَ لِهَذَا الْخَلْقِ رَبٌّ حَادِثُهُ، فَكَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَادَثَ بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الآيَاتِ أَنَّهُ جَاءَ بِضَوْءٍ طَبَّقَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَعَاشًا، وَسِرَاجًا وَهَّاجًا، ثُمَّ إِذَا شَاءَ ذَهَبَ بِذَاكَ الْخَلْقِ، وَجَاءَ بِظُلْمَةٍ طَبَّقَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ، وَجَعَلَ فِيهَا سَكَنًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَإِذَا شَاءَ بِنَا رَبُّنَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَالرَّعْدِ، وَالْبَرْقِ، وَالصَّوَاعِقِ مَا شَاءَ، وَإِذَا شَاءَ صَرَفَ ذَلِكَ الْخَلْقَ، وَإِذَا شَاءَ بِبَرْدٍ يُقَرْقِفُ النَّاسَ، وَإِذَا شَاءَ ذَهَبَ بِذَلِكِ الْبَرْدِ، وَجَاءَ بِحَرٍّ يَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ النَّاسِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ، أَنَّ لِهَذَا الْخَلْقِ رَبًّا هُوَ يُحَادِثُهُ بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الآيَاتِ كَذَلِكَ، إِذَا شَاءَ ذَهَبَ بِالدُّنْيَا وَجَاءَ بِالآخِرَةِ"، (كتاب العظمة الأصبهاني).

وليسَ مقصودنا هنا مجرَّدَ الإقرارِ بوجودِ الله، تعالى، فهذا لا تنحصرُ الأدلّةُ عليهِ في طريقينِ ولا ألف، ولكن أردنا بيانَ أصولِ استدلال أهلِ الحقّ والصّلاحِ من الأنبياءِ في كتابِ الله، تعالى، ومن دونهم من السّلفِ الصّالحين. فهذه الطُّرُقُ الاستدلالية على إثباتِ وجودِ الله تعالى، مُجزئةٌ لبيانِ المقصود وإثباتِ المطلبِ إن شاء الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.