شعار قسم مدونات

ماذا لو كان ترمب محقا؟

Blogs- ترمب
منذ زمن ليس ببعيد كان الشغل الشاغل للعرب عموما هو القضية الفلسطينية، وإلى الآن أتذكر تفاصيل طفولتي التي ترعرعتُ فيها إلى جانب أقراني نتغنى بحب فلسطين ونكرر أناشيدها في ساحات المدرسة وفي الخلوة وكذا في المناسبات الوطنية. فحرصُ بعض فئات المجتمع الناشطة على غرس هذه البذرة في صدور الجيل الناشئ جاب نتيجته ومحصوله وإن كان غير وفير. وبعد سنين فقط وجدنا جيل من الشباب يعتبر القضية الفلسطينية قضيته الشخصية وإن فرقت الجغرافيا بينهم.
  
واجتاحت ثورة شبكات التواصل الاجتماعي البلاد فجعلت تنتج وجهات نظر مختلفة وعديدة، هذه الأخيرة أخذت تتراكم على طبقات الفكر العربي مزعزعة قناعاته ومسلماته السابقة. ففرضًا لو أن قرار ترمب هذا أخذ موعدًا قبل عشرة سنين مثلا لما كانت ردة الفعل ستكون بسيطة بهذا الشكل. وهذا ما يحثنا في هذه اللحظات على أن نعاين الأمور عن كثب لنكتشف ببساطة أن هذا القرار لم يكن وليد اليوم. بل سبقه تمهيد طويل، استغرق السنين والعقود ليتجلى في يومنا هذا على هذه الشاكلة، دون أن يكون لنا حق الرد سوى الرضوخ.
   
لن ترضخ الأمة لهذا القرار طبعا وبكل بساطة، فالعديد من الانتفاضات قد اشتعلت في ربوع متفرقة من الدول العالم العربي، في مصر وفي الجزائر على سبيل المثال منددة بهذا القرار الجائر، وفي محاولة للتعاطف وذلك أضعف الإيمان. يقول الهواري بومدين الرئيس الجزائري الراحل: "الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، هذه الجملة لا تكاد تفارق الكبير ولا الصغير في أي موقف يستدعي الحديث عن فلسطين. لكن دعنا نتفحص العبارة من زاوية أخرى، من بإمكانه أن يشك في كون فلسطين مظلومة؟ من بإمكانه أن يراوده شعور أن فلسطين ظالمة؟ العبارة لا شك أنها تحمل الدلالتين معا، لكن الناس تغض الطرف على الشطر الأول منها بكل بساطة، وهذا ما يدفعني أن أطرح هذا السؤال: ماذا لو كان فلسطين حقا ظالمة؟ لن يؤدي هذا السؤال إلى جواب بقدر ما سيؤدي إلى اتهامات.
   
انتفضت الجزائر في سابقة لها من أجل القدس، واعتلت الأعلام الفلسطينية، وقادت التنظيمات الطلابية المسيرات بالآلاف ونادوا على أن القدس عاصمة فلسطين وستبقى عاصمتها، ولكن ماذا بعد كل هذا؟
انتفضت الجزائر في سابقة لها من أجل القدس، واعتلت الأعلام الفلسطينية، وقادت التنظيمات الطلابية المسيرات بالآلاف ونادوا على أن القدس عاصمة فلسطين وستبقى عاصمتها، ولكن ماذا بعد كل هذا؟
 

ولن يقبل أحد هذا السؤال أساسًا، فجيلنا الذي ينتمي بشكل كبير إلى الثمانينيات والتسعينيات على يقين كون فلسطين مظلومة وليست ظالمة، وبإمكانه أن يثبت هذا وأن يعاتب وينادي وينتفض ويقسم بأغلظ الأيمان على كونها مظلومة، لكن التاريخ لا يرحم، فمن يدري ماذا يحصل غدا؟ فبالأمس القريب لم يكن أحد يظن أن بإمكان أمريكا أن تهدي القدسَ إسرائيلُ على طبق من ذهب، وآثرتُ أن أقدم القدس على إسرائيل لعلو مرتبة الأولى، ولكن ها نحن اليوم نشهد تتويج هذه الأخيرة بالجائزة العظمى في ظل غياب بقية الأطراف أو ربما "عفوا" في حالة تواطؤ ويمكن أن يكون هذا قذف.
   
إن القذفَ من الكبائر في عقيدتنا، وأن نشير إلى دولة ما بالبنان ونتهمها بالتآمر والتواطؤ إلى جانب أخرى من أجل زف القدس كعروس إلى المغتصب الإسرائيلي، هذا يستدعي إعادة التفكير جيدا. ولابد لنا إذن سوى من العودة إلى التساؤل الأول الذي راودني مرة أخرى حتى نتبين حجم المصيبة التي نحن بصدد الولوج إليها ونفكر بهدوء في حلها. ماذا سيحصل حين يطرح الجيل القادم هذا السؤال؟ إن المصائب يعالجها أهلها، فإن لم يحرك أهل الديار في مصيبتهم شيئا، فلا أمل من أن يقدم جيل آخر بعدهم ويقوم بما لم يستطع أن يقوم به آباؤهم وأجدادهم، فجيلنا فشل بكل براعة في تصحيح مصائب 1948، لكن أملنا كبير في أن يصحح الجيل القادم أخطائنا وكل هذا ممكن إن استطعنا ببساطة أن نهيئه لذلك.

     
إن لم تُزرع القناعات والحقائق التي تؤكد أن القدس للمسلمين وهم أصحاب الأحقية في الحصول عليه وهو لفلسطين، وفلسطين عربية مسلمة من قبل هذا الجيل في بذور اليوم والتي هي ضياء الجيل القادم، فإننا بذلك سلمنا أنفسنا إلى عتبة الاستسلام بكل بساطة. بكل بساطة انتفضت الجامعات الجزائرية في سابقة لها من أجل القدس، واعتلت الأعلام الفلسطينية البيوت والمؤسسات، وقادت التنظيمات الطلابية المسيرات بالآلاف وعشرات الآلاف وصرخوا ونادوا على أن القدس عاصمة فلسطين وستبقى عاصمتها، ولكن ماذا بعد كل هذا؟
   
ما هي النتائج التي تحصلنا عليها من خلال كل هذه التمثيليات؟ وأعود مرة أخرى وأقول: نحن لسنا في حاجة إلى إثارة الزوابع.. نحن في حاجة إلى السكينة. فالأفكار العظيمة تتكون في رحم السكينة، نحن في حاجة إلى مساحة من التفكير ينتج عنها قرارات تجعلنا نحرك عجلة التغيير، فاليقين يؤكد أنه لو سقيت شجرة بلاستيكية مدة قرن لن يجعلها ذلك تثمر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.