شعار قسم مدونات

لا تسافر.. العشب ليس أكثر اخضرارًا

مدونات - السفر

"العشب يبدو أكثر اخضرارًا على الضفة المقابلة طالما لم تطؤه قدمك"

(مثل إنجليزي)

  

"لم أكن أصدّق أن من أتحدث معه هو من كنت أبيت معه في الزنزانة في معتقلات الطغاة، لقد كان هو من يثبّتنا داخل الزنزانة بتلاوة القرآن واستحضار المعاني الإيمانية فنزداد بها صلابة وثباتاً.. وعندما سافر إلى الخارج، كنت أكلمه وهو يأخذ استراحة من رقصته مع صديقته في الـNight Club، إنه لم يعد يبالي بالقضية ولم يعد يلقي بالًا بحال المسلمين، في الحقيقة فهو لم يعد يبالي بشيء سوى نفسه وما تهواه فحسب".

 

هذه القصة ليست من وحي خيال أحد المؤلفين وإنما هي قصة رُويت لي شخصيًا مثيلاتها الكثير التي تشترك جميعها في جوهر واحد: شبابٌ مسلمون محافظون يسافرون من دول عربية هربًا من جحيم الاستبداد إلى دول غربية حيث جنة الحريات، فلا يلبثون إلا قليلًا حتى يهجرون كل ما كانوا يحافظون عليه من قيم، وتنقلب مبادئهم وثوابتهم، وينخرطون في آليات "الاندماج" الغربية فيتطبّعون -حتى النخاع- بالطباع الفاسدة السائدة في النظام الاجتماعي الغربي. ويجب أن ينتبه القارئ إلى أني لا أتحدث عن حالة واحدة أو اثنتين فحسب وإنما أتحدث عن ظاهرة عمّت أغلب من أعرفهم من أصحاب الرسالات أو القضايا، حتى بات الأصل عندب فيمن يخرج إلى بلاد الحريات أنه يفقد دينه أو ما تبقى منه، ومن يحافظ على دينه خارج بلده فهو الاستثناء.

 

لكن ما هو المؤلم في الحقيقة حول هذا الأمر؟!

 

undefined
 
إن ما يؤلمني هو أن هذا الأمر ملاحظ للقاصي والداني، ويعلمه القريب والبعيد، ولا ينزل أحد من أصدقائنا -إلا من رحم ربي- إلى بلده الأمّ لأجازة عابرة إلا ونلحظ فيه تغيرًا للأسوأ في سلوكه وتفكيره وتدينه بشكل عام، ومع كل ذلك فإنه عندما يُفتح النقاش -في بلادنا- حول السفر للخارج فإن مخيلاتنا تتجه إلى أراضي الأحلام وتصوّر لنا فرص العمل المتوفرة ومستوى التعليم المتقدم ومعيشة الإنسان الكريمة، ولا تكاد تذكر هذه المصيبة بكلمة واحدة!

 

وأمثلهم طريقة من يلفت النظر إلى ضرورة التجهيز للسفر، والتأهل ماديًا ومعنويًا له، وعدم اعتباره جنة الله في أرضه وإنما تعتريه صعوبات مادية وعوائق متعلقة بالغلاء والعملة ونحو ذلك. لكن كم من الناس الذين يفكرون في السفر يضعون مسألة الدين في الاعتبار؟ ولماذا يقضي الشباب أوقاتهم وربما سنوات من أعمارهم للتجهيز المادي للسفر وصعوباته، ولا يقضون معشار هذا الوقت في الإعداد "دينيًا" للسفر؟ كم منا يعتبر أن السفر للخارج هو في حقيقته تهديد وليس فرصة؟ تهديد ينذر بضياع الدين، وتفسخ القيم، وفساد التصورات؟ إن نصف الحقيقة كذب.. فلماذا لا يتحدث الناس عن هذا الجانب المظلم في مسألة السفر للخارج؟

 

بالتأكيد هناك استثناءات، أعرف شخصيًا من كان لا يواظب على الصلاة في بلده، وأصبح يواظب عليها في "بلاد الكفر"، وأعرف الكثيرين ممن حافظوا على ثوابتهم وقيمهم في مجتمعات شديدة الفساد، ربما يكون هذا راجعًا إلى الخلوة التي تجعل المرء يعيد التفكير في حياته ومساراته، وربما يكون لشعور المرء بالتهديد في مجتمع مغاير فيلجأ إلى الاستمساك بأصلٍ يعض عليه بنواجذه، مما يزيد من حال تدينه.

 

لكن على أي حال، يظل الأصل فيمن يسافر: أن ضياع دينه بات أقرب مما كان عليه حاله قبل السفر، ودون ذلك استثناء. فإلى هؤلاء الذين يحلمون بالسفر إلى الخارج، ولا ينفكون عن الحديث عن السفر في كل وقت وحين: لقد رأينا الكثير من أصحاب الرسالات وثلة من أصحاب العزائم الذين سافروا فرقّ دينهم شيئاً فشيئاً حتى كفروا بالله وألحدوا ولم يبق لهم من دينهم شيء. هؤلاء كانوا يهربون من جحيم الاستبداد العربي إلى نعيم الحرية الغربية، مثلك بالضبط.

 

الناس ينبغي عليها أن تخطط وتفكر وتدرس كيفية الحفاظ على دينها في الغرب، كما تدرس وتخطط وتبذل الغالي والنفيس من وقتها ومالها من أجل إنهاء الإجراءات المادية
الناس ينبغي عليها أن تخطط وتفكر وتدرس كيفية الحفاظ على دينها في الغرب، كما تدرس وتخطط وتبذل الغالي والنفيس من وقتها ومالها من أجل إنهاء الإجراءات المادية
 

ورأينا بعضًا من أهل الحق ممّن تعرّضوا للحبس في غياهب المعتقلات اللاآدمية في سبيل عدالة قضيتهم، وممّن وقفوا كالأسود وثبتوا ثبات الجبال الرواسي أمام جحافل الطغيان التي آذتهم في أموالهم وأعمارهم وأهلهم، رأيناهم الآن يقعون فريسة للحضارة الغربية حتى صار الواحد منهم يهزأ بالقضية وهو يحتسي كأسًا من الخمر أو يشرب الحشيش والماريجوانا مع أصدقائه.

 

ورأينا من كان محافظاً على صلاته، ملتزمًا بأخلاقه، حتى إذا استقرّ في الغرب فقد هويته ومُسخت شخصيته بالكامل حتى ما عدت تعرفه إذا رأيته: شخص مختلف تمامًا لا يصلي ولا يذكر الله ويعيش في ظل علاقات نسائية متعددة ربما ينسى أن يحصاها من كثرتها، هو مجرد كان يتطلع إلى تعليم أفضل في الغرب، مثلك بالضبط. بل إننا رأينا أفواجاً من اللاجئين السوريين يبدّلون دينهم ويتنصّرون داخل الكنائس الأوروبية، هؤلاء كانوا يبحثون عن الحياة الكريمة ويسعون وراء اللقمة النظيفة في الغرب، مثلك بالضبط.

 

أنا لا أدعو إلى عدم السفر، ولكني لا أدعو إلى السفر كذلك. فكل ما أريد أن أشير إليه في هذه التدوينة أن الناس ينبغي عليها أن تخطط وتفكر وتدرس كيفية الحفاظ على دينها في الغرب، كما تدرس وتخطط وتبذل الغالي والنفيس من وقتها ومالها من أجل إنهاء الإجراءات المادية مثل تلك المتعلقة بالسفر وتعلم اللغة الأجنبية والبحث عن أفضل سكن للإقامة والمقارنة بين أفضل الجامعات الموجودة ونحو ذلك.

 

وأقول أن أي خطاب يحث على السفر للغرب ولا يذكر قضية الدين ولا يشدد عليها ولا يشير إلى خطوات ووسائل للحفاظ على الدين في بلاد الغرب فهو خطاب فاسد وقاصر لا يُعوّل عليه، وضرره أكبر من نفعه. فكل معيشة كريمة وكل لحظة سعادة وكل تعليم متقدم يأتي على حساب الدين فلا قيمة لها، فماذا بعد فقدان الدين يجد المرء؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.