شعار قسم مدونات

صراع النبوءات.. النبوءة الليبرالية "الفردوس الأرضي"

blogs مدينة الله للقديس أوغسطين

"إن العدو الغاضب الغاطس في بحر من الدم، كان يقف أمام ذلك الحاجز فتخمد شهوة القتل فيه على عتبة البيت المقدس".
(القديس أوغسطين – مدينة الله)

"فالبرجوازي قد أبدعته بدايات الفكر الحديث عمدا، وهو جهد في الهندسة الاجتماعية يعمل على خلق سلام المجتمع من خلال تغيير الطبيعة الإنسانية ذاتها"
(فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ والإنسان الأخير)

سنة 410 للميلاد اجتاحت القبائل الجرمانية المتوحشة روما، ونهبت "المدينة الخالدة" كما كان يسميها الرومان، كانت هذه الحادثة بداية تحول مهم في التاريخ الأوروبي، فقد كانت نذيرا بانهيار الامبراطورية الرومانية التي امتد عمرها ثمانية قرون، وكانت كذلك بداية صراع فكري وفلسفي سيرثه مفكرو وفلاسفة أوروبا على طول تاريخها، هذا الصراع هو الذي انبثقت منه في لغتها وفلسفتها نبوءة العصر الحديث "النبوءة الليبرالية".

كانت بذرة هذا الصراع في ذلك الجدال الذي احتدم بين الوثنيين الرومان وبين المسيحيين، فقد ادعى الوثنيون أن النازلة التي حلت بروما كانت من أثر ما دخلها من المسيحية وما فعلته من منعِها تقديم القرابين لآلهة الرومان، وقد تصدى القديس أوغسطين وقتها للرد على هذه الدعوى في كتابه الخطير "مدينة الله"، في هذا الكتاب ميز أوغسطين بين مدينتين تحكمان في التاريخ، إحداهما هي مدينة الله العالية على الزمان وتقلباته، السالمة مما يعتري المدينة الأرضية من النوائب والكوارث والحروب، وهي مدينة في السماء لا يقطنها إلا المؤمنون بالخلاص المسيحي المتخلّون عن النزوات الأرضية، ومدينة الشيطان التي أخلد أهلوها إلى الأرض وارتضوا إشباع شهواتهم وغرائزهم الأرضية الفانية، وقد قرر أوغسطين أن التاريخ ما هو في جملته إلا صراع بين هاتين المدينتين "مدينة الله التي في السماء، ومدينة الشيطان التي في الأرض" ينتهي هذا الصراع بهيمنة مدينة الله وانتصارها في آخر الزمان.

قرر أوغسطين أن التاريخ ما هو في جملته إلا صراع بين المدينتين
قرر أوغسطين أن التاريخ ما هو في جملته إلا صراع بين المدينتين "مدينة الله التي في السماء، ومدينة الشيطان التي في الأرض" ينتهي هذا الصراع بهيمنة مدينة الله وانتصارها في آخر الزمان
 

ورثت الكنيسة في أوروبا بعد ذلك هذا التمييز الذي أسس له أوغسطين، وقدمت نفسها باعتبارها الباب المؤدي إلى مدينة الله، تلك المدينة التي يتطلب المرء لدخولها أن يتخلى عن كل ما تدعوه إليه مدينة الشيطان من نوازع ورغبات أرضية، إنه عن هذه الفكرة نشأ ذلك الفصام في حالة الكنيسة التي اتخذت هذه الدعوى ذريعة لبسط نفوذها على أوروبا واستعانت ب"النزوات الدنيوية" لتثبيت نفسها بابا لها. 

كان عصر النهضة بدوره إعادة إحياء لهذا الجدال، فقد بعثت تواريخ وأشعار الرومان وكتاباتهم في مفكري ورواد عصر النهضة أملا في إمكان إحقاق سلام في المدينة الأرضية شبيها بالسلام في مدينة الله. فلا بد أن التنسك والرهبنة المسيحية بانتظار مدينة الله قد ساهما في إضعاف روما. كان مكيافلي ممن اضطلع بهذا الجدال، وأعلى من شأن روما الوثنية وتجربتها السياسية على النحو الذي ذكرناه في المقالات السابقة.

غير أن نظرية المسار التي نشأت بعد التحول الكبير قدمت في هذا الجدال رأيا حاسما، فقد قررت أن هذا التمييز الذي جاء به أوغسطين قد تحول تحولا مهما مع الثورة الفرنسية، فقد جاءت الثورة الفرنسية إلى "مدينة الله" التي في السماء وأنزلتها إلى الأرض، فلم تكن المطالب التي نادى بها كانط وهيجل وفلاسفة التنوير أساسا لسلام دائم ومواطنة عالمية إلا صورة أرضية مستنسخة عن الصورة السماوية لمدينة الله، فتلك المدينة في عرف المسيحية والتي سيقطنها المؤمنون بسلام آخر الزمان في السماء وينعمون فيها آمنين في مساواة تامة أمام الله، توازي في عرف التنوير دولة دنيوية يحكمها العقل وينعم فيها المواطنون المؤمنون بقوانينها آمنين في مساواة تامة أمام القانون.

لم يكن ما فعله هيجل إلا أنه أعاد صياغة نبوءة أوغسطين بانتصار مدينة الله آخر الزمان، لقد كانت نبوءة هيجل نبوءة عقلانية لا دينية، سينتهي التاريخ -كما يرى هيجل- عندما ينتصر العقل ومطالبه على الطبيعة ومطالبها. ومعنى نهاية التاريخ هنا نهاية قانون الاستبدال الخلدوني المحكوم بالقوى الغريزية الطبيعية وكسر الدورة الحضارية، فردوس أرضي ستنعم به البشرية في ظل الدولة العقلانية بعيدا عن الدورات التاريخية وتقلباتها.

انتهت نبوءة ماركس مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وبقي مسرح التاريخ مرتعا للنبوءة الليبرالية، وخرج أحد دعاتها المشهورين
انتهت نبوءة ماركس مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وبقي مسرح التاريخ مرتعا للنبوءة الليبرالية، وخرج أحد دعاتها المشهورين "فرانسيس فوكوياما" معلنا نهاية التاريخ وانتصار النبوءة الليبرالية
 
نبوءات الفردوس الأرضي:

نشأت عن هذه النبوءة الهيجلية محاولتان أساسيتان لتنفيذها اصطرعتا ردحا من الزمن، كلا المحاولتين جعلتا الاقتصاد قوة دافعة للتاريخ تدفعه في مسار خطي إلى نهايته، لكن هاتين المحاولتين اختلفتا في شكل هذه النهاية وسماتها، بنى ماركس على نموذج هيجل نبوءته الخاصة، فالتاريخ سيتحرك بفعل القوة الاقتصادية وتطور وسائل الإنتاج ليصل بالبشرية إلى حالة من الشيوعية المطلقة ينتهي عندها التاريخ وتنعم البشرية فيه بسلام دائم.

لكن نبوءة ماركس عورضت بنبوءة أقوى منها انتشرت في أوروبا وترسخت، هي النبوءة الليبرالية، وصلت هذه النبوءة نفسها بهيجل وتبنت الاقتصاد قوة دافعة أيضا، لكنها قررت أن صورة الفردوس الأرضي هي صورة المجتمع الرأسمالي الليبرالي. 

وليس من شأننا هنا أن نبحث الفوارق بين النبوءتين، بل ما يهمنا هو إثبات انطلاقهما من نموذج واحد في تفسير التاريخ هو النموذج الذي بناه هيجل، وهو عين ما تنبّه له علي عزت بيجوفيتش وفصّله عبد الوهاب المسيري في كتاباته، فقد وجدا أن خلف الفروقات الكثيرة بين الماركسية والرأسمالية الليبرالية وحدة كامنة. وأن هذه الوحدة ما هي إلا نموذج هيجل في المسار التاريخي، وحلم التنوير في إحلال الفردوس الأرضي محل الفردوس السماوي في شكل من أشكال الحلولية ووحدة الوجود المادية.

النبوءة الليبرالية:
كان على البشرية لكي تصل للمجتمع الليبرالي المثالي أن تمر بمرحلة من "الفرم". فالعصبيات الكبرى عليها أن تتفكك لعصبيات أصغر فأصغر حتى يصير المجتمع بالنهاية وحدات فردية يمكن التحكم فيها

انتهت نبوءة ماركس مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وبقي مسرح التاريخ مرتعا للنبوءة الليبرالية، وخرج أحد دعاتها المشهورين "فرانسيس فوكوياما" معلنا نهاية التاريخ وانتصار النبوءة الليبرالية. فلم تعرف البشرية ولن تعرف شكلا للمجتمع البشري أفضل وأكثر اتزانا من المجتمع الليبرالي، وقد بنى فوكوياما حجته على نموذج هيجل في المسار التاريخي، وقدّم في كتابه السر العجيب الذي مكّن هذه النبوءة من الانتصار وجعلها أهلا لإنهاء التاريخ.

إن مجمل ما ناقشه فوكوياما كان سردا متصلا للكيفية التي غيّرت فيها الليبرالية القوى الطبيعية المحركة للتاريخ، ابتداء من التحول الكبير الذي بدأ تحطيم العصبيات وإنهاء المجتمع البدوي، وانتهاء بتغيير نوازع الإنسان وترويضها وتهيئتها لتتماشى مع القوة المحركة الجديدة "قوة الاقتصاد". كان على البشرية لكي تصل إلى المجتمع الليبرالي المثالي أن تمر بمرحلة من "الفرم" المتواصل للأشكال الاجتماعية الطبيعية "غير العقلانية"، فالعصبيات الكبرى عليها أن تتفكك إلى عصبيات أصغر فأصغر حتى يصير المجتمع في النهاية وحدات فردية يمكن للآلة الجديدة "الدولة" أن تتعامل معها وتُعقلنها وتتحكم فيها.

 

فالسعادة من وجهة نظر هذا المشروع هي تحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر قدر من الناس، والمنفعة هنا متعلقة بالفرد وسعادته، وهي تعتبر أي نوع من العلاقات الانسانية التي لا تقوم على مفهوم السعادة النفعي علاقات غير عقلانية، لأنها لا ينتج عن الدفاع عنها والتمسك بها أي تقدم، بل ربما تساهم مثل هذه الروابط في كبح حرية الفرد في تحصيل منافعه.

لقد سادت نبوءة الليبرالية العالم وتسوده إلى يومنا هذا، لكن أمامها عقبات كثيرة لتتحقق تحققا تاما على الشكل الذي حلم به كانط وهيجل ومن قبلهما أفلاطون
لقد سادت نبوءة الليبرالية العالم وتسوده إلى يومنا هذا، لكن أمامها عقبات كثيرة لتتحقق تحققا تاما على الشكل الذي حلم به كانط وهيجل ومن قبلهما أفلاطون
 

ولهذا كان على الفرد أيضا في مراحل تقدمه في المسار التاريخي أن يتخلى عن نوازعه الطبيعية (حب الغلبة والتسيد، وأخلاق التوحش) لصالح نوازعه الأكثر سلمية (الجشع أو المصلحة المادية). هذا التغيير في الطبيعة قد تناوله ألبرت هيرشمان في بحثه المهم "Passions and Interests" إذ تتبع في هذا البحث مسار الأفكار التي انبنت عليها الرأسمالية وكيف أن هذه الأفكار رامت تغيير لخصائص الإنسان، من خلال وضع جشعه وسعيه لتحصيل الثروة (وهو معنى المصلحة) في صراع مع نوازعه الطبيعية الأخرى لترويضها وإخمادها.

هذه الهندسة الاجتماعية من الفرم والترويض كانت شرطا مهما لإنهاء التاريخ والوصول إلى الفردوس الأرضي، وقد أشار فوكوياما إلى أن هذه العملية قد تحققت تماما في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا، داعيا بقية العالم للحاق بها.

هكذا استحدثت النبوءة الليبرالية لنفسها لغتها ونظرتها التاريخية والفلسفية للعالم، ها هي نبوءة تعيش تحققها فعليا، وتدعو من لم يؤمن بها لدخول الفردوس من بابها، لقد سادت هذه النبوءة العالم وتسوده إلى يومنا هذا، لكن أمامها عقبات كثيرة لتتحقق تحققا تاما على الشكل الذي حلم به كانط وهيجل ومن قبلهما أفلاطون. فثمة نبوءات أخرى كانت تمتخض زبدتها في أوروبا.. وبدأت في وقتنا الراهن تظهر بأشكالها المختلفة متحدية نظرية المسار والنبوءة الليبرالية. وسنتحدث فيما سيأتي عن خريطة هذا الصراع وموقع أمتنا منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.