شعار قسم مدونات

هل كان ابن تيمية داعية قتل؟

Blogs- sufi

كثر الاستشهاد بفتاوى ابن تيمية وإلصاقها بفعل دواعش اليوم وفِكر وهابي أمس، والقول إنّه من الداعين إلى قتلِ الكافر وتكفيرِ العوام وتعطّشه لسفك الدماء؛ لكثرة ورود "يُستتاب أو يُقتل" في فتاواه ومؤلفاته. وهو فقيه أصوليّ صاحب قريحة، عاش في القرن السابع والثامن الهجريين وتلقّى الفقه الحنبلي وأصوله عن أبيه، وقد عُني بالحديث وسمع من أكثر من مائتي شيخ. وشرع ابن تيمية في التدريس والفتوى وهو ابن سبعة عشر عاما، بالإضافة إلى شروعه في هذه السن في التأليف، وله مؤلفات ضخمة جُمعت في مجلدات عديدة.
           
أمّا فتاواه فقد كانت محكومة بعصره العصيب، الذي عاش فيه وعايش مآسيه، والذي يُصنّف كأشد فترة مرّت بالتاريخ العربي، لقدوم المغول إلى بغداد وإحراقها وإسقاط الخلافة العبّاسية، أمّا الصليبون فقد أغاروا على الشام، وأُحدثت الفتن وعمّت الابتلاءات وعاش المسلمون حينًا في حروبٍ وغارات وتوجسٍ وريبة. ومن المعلوم أن الفتوى هي بنت عصرها، ومؤطّرة بأحوال هذا الزمن وأحداثه، وتطبيقها خارجه لا يجوز إلا إذا تشابهت الأحداث وتطابقت الأحوال، وما حدث مع مجموع فتاوى ابن تيمية، أنها طُبعت ثم وُزِّعت على عامة الناس لوجه الله، دون تدقيق أو تمحيص في ما أورد.

   

موقفه من الشَّيعة
ذهب ابن تيمية إلى تكفير الشيعة الباطنيّة ووصمهم بأنهم أكثر كُفرًا من اليهود والنصارى وأن ضررهم على أمة محمّد ضرر عظيم أشدُّ من ضرر المشركين، ودعا إلى جهاد الشيعة النصيرية (العلوية) وأقرّ بأن دماءهم وأموالهم مباحة وأن جهادهم مقدم على جهاد غيرهم. وهنا يشير ابن تيمية إلى موالاتهم للصليبيين وتسهيليهم دخول بلاد الشام وقتلهم الحجيج، وإلى الوضع المتأزّم حينذاك بين الطوائف الإسلامية، من جهة، وبين المسلمين والمغيرين عليهم، من جهة أخرى.

     

موقفه من الصّوفيّة
ممّا هو مشهور عن ابن تيمية، أيضًا، ذمّه الصوفية والمتصوفة عموما، وأنهم مبتدعة ضالون لا يعدّهم إلا جهّالًا، ولا يعتقد في طريقهم من الصلاح شيئًا. وهذا من القول المفترى به على الشيخ، إذ أنه أظهر احترامًا كبيرًا لعدد من مشايخ الصوفيّة وذم بعضهم؛ بما رآه عليهم من تركهم أشغالَ الدنيا وزهدهم في العمل والكدح. وقد أفرد شرح كتاب "فتوح الغيب" للشيخ عبد القادر الجيلاني في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى، وقال فيهم "وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو عالمًا أو تاجرًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك".

   

ينبغي الأخذ في الاعتبار أنّه رجل يجتهد فيُخطئ ويُصيب، ومثلما كَفّر فإنّه كُفّر من بعض المشايخ، حتى ذهب البعض إلى أنَّ من أطلق عليه لقب
ينبغي الأخذ في الاعتبار أنّه رجل يجتهد فيُخطئ ويُصيب، ومثلما كَفّر فإنّه كُفّر من بعض المشايخ، حتى ذهب البعض إلى أنَّ من أطلق عليه لقب "شيخ الإسلام" فقد كفر!
  

قتل المجاهر بالنيّة في الصّلاة

ممّا كثر ذكره في وسائل الإعلام المختلفة، مقولة إن ابن تيمية يُبيح قتل من جهر بنيّته قبل الصلاة إذا أصرَّ على هذا الفعل بعد بيان الحكم الشرعيّ له. لكنْ بالرّجوع إلى أصل الفتوى ولفظها ورسمها في المجلد الثاني من الفتاوى الكبرى سنجد أن الأمر يختلف قليلًا. ووردت الفتوى في الصفحة الثامنة والتّسعين من المجلد الثاني على هذا النحو مسألة: في رجل إذا صلّى يشوّش على الصفوف الذي حواليه بالجهر بالنيّة وأنكروا عليه مرة ولم يرجع، وقال له إنسان: هذا الذي تفعله ما هو من دين الله، وأنت مخالف فيه السنّة. فقال: هذا دين الله الذي بعث به رسله، ويجب على كل مسلم أن يفعل هذا، وكذلك تلاوة القرآن يجهر بها خلف الإمام، الجواب: الحمد لله، الجهر بلفظ النيّة ليس مشروعًا عند أحد من علماء المسلمين، ولا فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ولا فعله أحد من خلفائه وأصحابه، وسلف الأمة وأئمتها، ومن ادّعى أن ذلك دين الله وأنه واجب فإنه يجب تعريفه الشريعة واستتابته من هذا القول فإن أصرَّ على ذلك قُتِل.

  
وهكذا نجد أن حُكم ابن تيمية قيل في من يُدخل فعلًا مستحدثًا في الدِّين والإصرار على وجوبه وادّعاء أن ذلك من دين الله، وليس القول في من يتلفظّ بالنية أو أسرَّ بها إلا إذا دخل تحت عباءة المستحدث في الدِّين والمُفتري عليه. وسواءٌ اتّفقنا أو اختلفنا في فتوى ابن تيمية في من يُشرّع ثم يُوجب ما شرّع، فإن قولته في قتل المجاهر بالنية كما تناولها البعض ليست صحيحة في مجملها.
   
وينبغي الأخذ في الاعتبار أنّه رجل يجتهد فيُخطئ ويُصيب، ومثلما كَفّر فإنّه كُفّر من بعض المشايخ، حتى ذهب البعض إلى أنّ من أطلق عليه لقب "شيخ الإسلام" فقد كفر! وقد لاقته المنيّة في أحد السّجون التي أُودِع بها بعدما صُودرت عنه أدوات الكتابة والكتب، وحضر جنازتَه مئة ألف رجل أو يزيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.