شعار قسم مدونات

بل أسهل اللغات

اللغة العربية

لقد كان لإقبال الشعوب الإسلامية على تعلم العربية بعد انتشار الفتوحات الإسلامية، كبير الأثر في إقراض الكثير من ألفاظ العربية للغات هذه الشعوب، وهو ما تشهد به معاجم اللغات وقواميسها، فلا يكاد يخلو معجم من المعاجم إلا ويحوي بين دفتيه مجموعة من الألفاظ العربية، ولا يدانيها في هذا الفضل لغة من لغات العالم قديمها ومعاصرها، فاليونانية واللاتينية بالرغم من أنهما أقدم من العربية حضارة، فلم تؤثرا إلا على اللغات الأوروبية، بينما في العصر الحديث نجد الإنجليزية والفرنسية ذات تأثير محدود على لغات الشعوب مع أنهما لغتا أكبر إمبراطوريتين في العصر الحديث. وعلى النقيض من ذلك، نجد للعربية التي واجهت تحديات خارجية من أعدائها وتقصيرا وإهمالا داخليا من أبنائها، تأثيرا واضحا غير يسير في نحو مئة لغة من اللغات واللهجات الناطق بها أرقى الأقوام في أنحاء أوروبا وأميركا واستراليا، ونحو خمسين من شعوب آسيا وأفريقيا.

بيد أنه تقف هناك عقبات كؤود أمام تعلم العربية وانتشارها، أهمها من وجهة نظري، التصور الذهني الخاطئ بأن اللغة العربية لغة صعبة التعلم إن لم تكن أصعب اللغات، وقد روّج هذا التصور أعداء العربية من المحتلين وتلاميذهم من المتستغربين، لتثبيط همم الدارسين وصرف أبنائها عن تعلمها، بإقامة حاجز نفسي بينهم وبين اللغة العربية، فانظر على سبيل المثال إلى سلامة موسى وتبنيه رأي المستشرق وليم ولكوكس بهجر الفصحى واتخاذ العامية لغة للكتابة والدراسة، وكيف يسرد آراء ودعوات المتأففين من الفصحى على حد تعبيره من أسلافه ومعاصريه، أمثال قاسم أمين وأحمد لطفي السيد.

 

ويبرر نقمتهم على الفصحى بسببين؛ أولهما: صعوبة تعلمها، وثانيهما: عجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية، ثم يقرر بصيغة جازمة غير قابلة للنقاش صعوبة تعلم العربية على الطلاب وكراهيتهم لها، فيقول: ولكن الواقع الذي لا أناقش فيه أن اللغة العربية يشق على طالب تعلمها، وطلبتنا مكدودون في المدارس يكدحون لفهم المئات من قواعدها ويخرجون بعد ذلك منها وهم يكرهونها لأنهم لا يرون طائلا ورائها (انظر كتابه: اليوم والغد ص72).

دعوى صعوبة اللغة العربية دعوى مردود عليها علميا وشرعيا، فمن الناحية الشرعية؛ قد غفلوا أو تغافلوا قوله تعالى:
دعوى صعوبة اللغة العربية دعوى مردود عليها علميا وشرعيا، فمن الناحية الشرعية؛ قد غفلوا أو تغافلوا قوله تعالى: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ"
 

ولم تكن دعوة ولكوكس وترويج سلامة موسى لها مجرد رأي صادر عن قناعة شخصية، أو مجرد محاولات فردية، بل كان حلقة في حلقات خطة استعمارية تستهدف الإسلام وروحه التي تتنافى مع الأطماع الاستعمارية، فكان أول واجب للقضاء على الإسلام وروح المقاومة هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها بإحياء اللهجات المحلية في شمال إفريقيا، واللغات العامية، حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، ويمكن التغلب على عواطفهم. ولقد تبنى بعض محبي العربية هذا التصور، وتشدق بصعوبتها تفاخرا وتباهيا بها ناسيا المردود العكسي على دارسيها أو الراغبين في دراستها.

ودعوى صعوبة اللغة العربية دعوى مردود عليها علميا وشرعيا، فمن الناحية الشرعية قد غفلوا أو تغافلوا قوله تعالى: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" (القمر:17) والتي تكررت أربع مرات في سورة القمر، ولن يتيسر القرآن للذكر إلا بتيسير لغته، فما لا يتم به الواجب فهو واجب، لذا قال مجاهد: ولقد يسرنا القرآن للذكر يعني هوَّنَّا قراءته، وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن، كما أورد ابن كثير عن الوراق أن قوله تعالى: فهل من مدكر، هل من طالب علم فيعان عليه، فالله تعالى تكفل بإعانة كل طالب علم يريد أن يفهم القرآن الكريم ويعرف معانيه، ولن يتحقق هذا إلا بتعلم لغة القرآن الكريم، وهذا ما دفع ابن تيمية إلى القول بوجوب تعلم اللغة العربية. كما قال تعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص:29) وقال تعالى: "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا" (مريم: 97) فهذه آيات واضحات عن تيسير اللسان (اللغة)، لِيدَّبَّروا القرآن الكريم.

ومن الناحية العلمية، فإن اللغة العربية تتميز بخصائص تسهم بشكل بارز على تيسير تعليمها، فمثلا؛ تتميز الكتابة العربية بأنها كتابة فونيمية؛ فلكل فونيم صامت حرف يقابله في العربية، كما وضعت لفونيمات الصائت الطويل حروف المد: الألف، والواو، والياء، ووضعت لفونيمات الصائت القصير الحركات: الفتحة، والضمة، والكسرة، فالكتابة العربية مكتفية ذاتيا بعلاقة كتابتها بأصواتها، وهذا ما يجعل تلميذا لا تعدو ثقافته الدراسية الابتدائية أن يكتب كلمة لا معنى لها مثل "دَيْز" كتابة صحيحة، مستندا في ذلك إلى هذا الانضباط الموجود في العلاقة بين فونيمات اللغة العربية وكتابتها.

 

نجد اللغة الإنجليزية التي تلقى دعما سياسيا وإعلاميا تفتقد القياس، فهي لغة مبنية على الشواذ حتى أن الأفعال الشاذة في اللغة الإنجليزية أكثر من المطردة
نجد اللغة الإنجليزية التي تلقى دعما سياسيا وإعلاميا تفتقد القياس، فهي لغة مبنية على الشواذ حتى أن الأفعال الشاذة في اللغة الإنجليزية أكثر من المطردة
 

بيد أن الفرنسي لا يستند إلى أي قدر من الانضباط عندما يكتب كلمة "monsieur" بمعنى سيد، وتنطق "مسيو" بإمالة الواو مع غنة، وإنما يستند إلى ذاكرته لا إلى قواعد، والأمر عينه في اللغة الإنجليزية، فعلى سبيل المثال؛ فونيم الكسرة الطويلة، والذي يكتب في العربية ياء، فإن هذا الصوت يكتب في الإنجليزية على ست صور متعددة لا يميز إحداها عن الأخرى منطقٌ أو قواعد وهي (y e ie ei ea ee)، بينما هو لا يكتب في العربية إلا ياء. ومثلا: الحرفان (th) ينطقان (ث) في بعض الكلمات مثل "thin" وينطقان (ذ) "then"، هذا فضلا عن الحروف التي تكتب ولا تنطق مثل (gh) في "right" وحرف (w) في "write"، وبالمناسبة الكلمتان "right" و"write" نطقهما لا يختلف، بينما رسمهما يختلف تماما. هذا على المستوى الصوتي أما على المستوى النحوي والصرفي؛ فاللغة العربية لغة قياسية الأصل في قواعدها الاطراد وما شذ عن ذلك فهو نادر، لذا قال الكسائي: إنما النحو قياس يتبع.

وبالمقابل، نجد اللغة الإنجليزية التي تلقى دعما سياسيا وإعلاميا تفتقد القياس، فهي لغة مبنية على الشواذ حتى أن الأفعال الشاذة في اللغة الإنجليزية أكثر من المطردة، فمثلا؛ الفعل "cut" لا يتغير في تصريفاته الثلاثة، بينما الفعل "write" تصريف الثاني "wrote" وتصريف الثالث "written"، بينما القاعدة هي إضافة (ed) على التصريف الأول لتحصل التصريف الثاني والثالث مثل كلمة "cover coverd coverd"، وعلى ذلك يمكننا القول بأن الشذوذ في اللغة الإنجليزية على المستوى الصوتي والنحوي هو الأصل، خلافا للعربية التي تتميز بالقياس والاطراد. 

وإذا نظرنا إلى المستوى الدلالي، فإن اللغة تتميز بأنها لغة اشتقاقية؛ أي تعتمد على اشتقاق المعنى من جذر واحد، فمثلا؛ الجذر (ك ت ب) يشتق منه الفعل "كتب"، والمصدر "الكتابة"، والاسم "الكتاب"، واسم المكان "المكتب" و"المكتبة"، واسم الفاعل "الكاتب"، واسم المفعول "المكتوب". ولو نظرنا إلى اللغة الإنجليزية وهي لغة إلصاقية، نجد المقابل لهذه المعاني مجموعة من الكلمات التي لا يوجد بين معظمها أي رابط على النحو التالي: كتب write، الكتابة writing، الكتاب book، المكتب (غرفة العمل) office، المكتب (الطاولة) desk، المكتبة library، الكاتب writer، المكتوب letter.

وعلى هذا فإن استيعاب الدارس للعربية لمعاني كلماتها وحفظه لمفرداتها، أيسر من استيعاب وحفظ مفردات اللغة الإنجليزية، بيد أن الدعم السياسي والاهتمام الإعلامي والأكاديمي للإنجليزية، بالإضافة إلى الهزيمة النفسية للشعوب العربية، جعلتهم ينظرون بعين الرضا للإنجليزية وبعين السخط للعربية. ولله در الشاعر حين قال: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.