هذه المقالة ليست خلاصة لدراسة علمية أو تجربة مخبرية في علم الإنسان أو النفس أو الاجتماع أو غيرها من العلوم الإنسانية، لكنها في الوقت نفسه ليست ادّعاء بلا أدلة أو معطيات ملموسة وحية من واقع الناس.
لقد ظل تغيير الأفكار والسلوك لدى الأفراد والتجمعات البشرية من خلال وسائل الإعلام محل نقاش وخلاف بين ثلاث مدارس، إحداها تقرّ بالدور الأعظم للإعلام في التأثير والتوجيه والتغيير، والثانية ترى أنه لا دور ولا تأثير له على الناس وأفكارهم، والثالثة تجمع بين الرأيين، ولكل مدرسة حججها وأدلتها. لكن التساؤلات عن آثار التكنولوجيات الجديدة، من أجهزة ومعلومات ووسائل، تكاثرت بتكاثر مظاهر الخلل لدى الأفراد خاصة، وبعض التجمعات البشرية، وانتقال ظواهر محددة إلى العالمية، ما دفع باحثين إلى القول إن تغيير الإنسان والبشر يجري على قدم وساق وهو قريب، إنْ لم يتم تدارك الأمر.
ويعود هذا التغيّر في الموقف من وسائل الاتصال إلى ظهور الإنترنت وانتشارها العالمي وتوسّع وتنوّع وسائلها، من حاسوب شخصي ومحمول ولوحي وهواتف محمولة وذكية، واستحواذ هذه الوسائل وما تقدمه من منصات ومواقع وخدمات إنترنتية، من تواصل وألعاب إلكترونية وواقع ثلاثي ومعزّزٍ وغيرها، خاصة أن هذه الوسائط لا تتوقف عن تقديم تحسينات يومية وتطويرات لخدماتها، دون الحديث عما تخبئه مختبرات وخبراء الشركات التكنولوجية من جديد في الوسائل والتقنيات والخدمات. لكنْ هل يغير الإنترنت بالفعل أفكار وسلوك الناس؟
قبل أن أترك للقارئ أو للمستخدم -كما صار يسمى في العصر الرقمي الجديد- الخيار بين نسف السؤال من الأساس، أو إعادة طرحه بصيغ أخرى تستحضر مستجدات جديدة قد تظهر لاحقا في حياة الأفراد والناس، أو تقديم جواب شاف عنه، أقول إن الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال تعدّ مجازفة غير محسوبة العواقب عمليا وفكريا وعلميا، غير أن هذا المقال يضع بعض الحقائق والمظاهر التي انتشرت بانتشار الإنترنت وألعابه وشبكاته التواصلية انتشار الهواتف الذكية في العالم كله، ومنها:
إدمان الإنترنت
-النزوع إلى "الانفرادية" أو "الفردية" حتى داخل الأسرة الواحدة: إذ صار التواصل مع الأقربين عبر الإنترنت ووسائله هو المسيطر، ما ساهم في تنامي ظاهرة الرأي الفردي المبني على نظرة أحادية وذاتية، على حساب الرأي الجماعي أو الحزبي أو الوطني؛ أو ما يسمى المصلحة العامة.
-قلة الحركة والنشاط البدني لدى الأطفال والشباب خاصة: إذ تقلصت دائرة الاستكشاف لدى الطفل لمحيط سكناه إلى 90% من تلك الدائرة، أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما قامت به وسائل الإعلام التقليدية التي قلّصت دائرة حركة الطفل الاستكشافية بـ25%، حسب دراسة علمية. وبالتالي ابتعد الفرد عن مكانه الجغرافي الحقيقي، مكتفيا بالمكان الافتراضي، ما ساهم في ظهور ثقافة "العيش مع الناس وحيدا"، كما قال غير واحد من علماء النفس والاجتماع والاتصال، وهذا الأمر انعكس سلبا بتزايد نسبة السمنة في العالم، ولدى الأطفال والشباب خاصة، وما يرتبط بهذه الظاهرة الصحية من أخطار وأمراض متنوعة؛ كالسكري والقلب.. وما حالات الموت الفجائي أمام الأجهزة الإلكترونية حول العالم عنا ببعيدة.
-تباعد بين الأجيال: لقد صار الآباء والتربويون يعانون معاناة شديدة من أجل التعرف على ما يفعله ويستهلكه الأبناء من مواد في الإنترنت، وفهم شفرات تواصلهم مع أقرانهم أو مع الجهات التي تبحث عن أهداف سهلة.. لقد صار سوء التفاهم والتمرد طاغيا من قبل أبناء العصر الرقمي الجديد، ورد الفعل والحيرة من قبل آباء عصر الإعلام التقليدي..
التنمّر
وهنا لا ننسى تعدد حالات الانتحار بين الأطفال والشباب، وحتى بين العرب أنفسهم، إذ تسببت الألعاب الإلكترونية، مثل: "بوكيمون جو" و"الحوت الأزرق" و"مريم"، في مقتل العديد من الصغار والمراهقين هنا أو هناك.
فقد صار لزاما على المواطن أن يحافظ على هويته الإلكترونية من أي تشويش أو تشويه أو سرقة أو اختراق أو قرصنة، كما أن الدولة صارت تنشئ مؤسسات تقنية خاصة، للاحتياط من أي قرصنة أو اختراق لمؤسساتها من قبَل دولة أو دول أخرى لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو غيرها، كاختراق "وكالة قنا" القطرية من أجل فرض حصار على قطر مثلا، أو الهجوم على البنوك الخليجية أو على شركة "أرامكو" النفطية السعودية، أو على المنشآت النووية الإيرانية.. أو لدعم مرشح على حساب آخر، كما حدث في الانتخابات الأميركية في 2016..
وظهر ما يسمى المقاومة الافتراضية، إذ يهاجم قراصنة بلد مواقعَ لبلد خصم أو عدو، وهنا لا تغيب عنا قرصنات تعرضت لها مواقع الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين من قبل المقاومة الفلسطينية، أو من قراصنة حول العالم كله أو من المنطقة العربية والإسلامية. هذه الظواهر، وغيرها كثير، وإن كانت تفيد بأن العديد من الأفراد قد تغيروا سلبيا بالاندفاع للانزواء أو الانتحار، وإيجابيا بالتخلص من الأمراض النفسية أو العوائق الاجتماعية وصاروا مشهورين بين أقرانهم ولدى وسائل إعلام، وأن طريقة تدبير الأفراد والمؤسسات والدول لشؤونهم وحياتهم تتغير رويدا رويدا، فإنها لا تعني أن المجتمعات وكل البشر قد تغيروا.
إن التغير السريع مخالف للطبيعة البشرية، إذ إن أي تغيّر للمجتمعات خاصة؛ يحتاج إلى جيلين أو أكثر حتى يظهر ويستقر، كما يقول العلماء. في المقابل لا أحد ينكر أن بعض الأفكار والسلوكات، كالعلمانية ثم اليمينية والشعبوية في الغرب -مثلا- صارت عادية أو اعتيادية بعد أن كانت مرفوضة من قبل.
كما أن التغيير لا يظهر إلا بعد عقود من الزمن على الأجيال التي تشبعت بثقافة مجتمعية، ولها ذاكرة مليئة بالأفكار والأحداث والمواقف والخبرات المتنوعة، فكيف بالأجيال الأصغر سنا التي انغمست مباشرة في عالم الإنترنت اللامحدود والظاهر منه والخفي، دون ثقافة مجتمعية أو ذاكرة أو هوية واضحة، ورغم ذلك، فلا بد من انتظار جيل الإنترنت حتى يكبر لنرى ما الذي تغير فيه وما الذي لم يتغير. لكنْ هل نقف متفرجين على ما يجري دون رؤية أو خطة لمواجهة الأخطار؟
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.