شعار قسم مدونات

التحرش وأحجار الدومينو!

Blogs- woman

يبدأ الأمر بالشجاعة الكافية والجرأة المطلوبة لدفع أول حجر من أحجار الدومينو؛ اتهام رسمي، أو لنقل إعلامي، لشخصية مشهورة، فنية، سياسية، أو أكاديمية، وأضف ما شئت من ميادين الشهرة، اتهامها بالتحرش، الذي في الغالب يكون قد وقع منذ زمن، لكن الضحية، ولعلهن عدد من الضحايا، لم تمتلك في حينها هذه القوة لتحريك حجر الدومينو، أقصد دعوى الاتهام، لعلها كانت صغيرة السن، عديمة الخبرة، أو خشيت على سيرتها المهنية أو الاجتماعية، أو لعلها في حينها آثرت الصمت حتى تدرك مبتغاها هي من الوصول للشهرة، أو الارتقاء في سلمها الوظيفي؛ فالمتهم هنا في الغالب صاحب نفوذ في العمل، أو في الدراسة، أو نحوه من الأماكن التي يرتبط بها مستقبلها، لذا يمكن القول أن صاحبتنا في أغلب الأحيان قد امتلأت بالشجاعة الكافية عندما استغنت بقوة عن ذلك المسؤول، مما يعني بالضرورة وجود العديدات الأخريات بانتظار امتلاكهن لهذه القوة للحركة الأولى، لتتابع بعدها أحجار الدومينو بالسقوط الواحد تلو الآخر.

 

دعوات متتالية بالتحرش، وما قد يصل لما هو أخطر منه، ضد مشاهير هنا وهناك، فكثيرات هن من امتلكن القوة مدفوعات بمن سبقهن للتبليغ، أو حتى لمجرد التصريح بتعرضهن للتحرش، لتدرك مع سقوط كل حجر بطلان ما كنت تعتقده مخطئاً من أن ظاهرة التحرش منتشرة بنسب عالية فقط في المجتمعات المتهمة بالتخلف والجهل، وتراجع المستوى الحقوقي للإنسان فيها عموماً، والمرأة خصوصاً، تلك المجتمعات التي يركن فيها مرضى القلوب إلى ضعف التشريعات الرادعة، وضعف تفعيلها، هذا إن وجدت أصلاً. إضافة إلى اتهامها بالتزمت والشكوى من الكبت الجنسي في عصر الإباحية، في ظل ثقافة العيب على نحوٍ صريح ٍمن التناقض المجتمعي؛ عندما تقيد به الأنثى، ويطلق به عنان التسكع لذكورها العاطلين المكبوتين، الذين لا قدرة لهم على تحصيل العفاف وفق شروط مجتمعهم، ولا تحصيل ما دونه وفق ما يرونه عبر الشاشات ووسائل التواصل عن المجتمعات التي يعتقدون بتحررها وفق ضيق أفقهم.

 
نعم، هذه المجتمعات تعاني من الكثير، لكن مشهد تتابع سقوط أحجار الدومينو أمامك؛ تصريحات واتهامات من بين أروقة أرقى الجامعات، ومن داخل مكاتب أرفع المنظمات والمؤسسات، وخلف شاشات أشهر السينمات، كل هذا يثبت لك أن مجتمعات الحرية، التي ترفع راية حقوق الإنسان، وتحرر المرأة، المشهورة بانفتاحها في العلاقات بين الجنسين دون أدنى اكتراث لأي قيد تقليدي، أو محرم ديني، تعاني من التحرش كما تعاني منه تلك المجتمعات السابقة. 

 

يبقى هذا المرض الخبيث يستشري في أوصال مجتمعاتنا، بانتظار قوة تستأصله وتدفعه، قوة تتجاوز مرحلة الحديث عنه، والجهر بالشكوى من التألم به
يبقى هذا المرض الخبيث يستشري في أوصال مجتمعاتنا، بانتظار قوة تستأصله وتدفعه، قوة تتجاوز مرحلة الحديث عنه، والجهر بالشكوى من التألم به
  

حتى ليقر المنصف المتابع للحقائق على أرض الواقع أن آفة التحرش حالياً من الآفات المجتمعية العالمية بامتياز. بل إن هذه الظاهرة المرضية نقطة التقاء بين المجتمعات المتناقضة، وفي الأوساط الطبقية المتباينة مادياً وثقافياً واجتماعياً. وبينما تتوارد عليك هذه الأفكار المتلاحقة عن تدني الواقع الأخلاقي للإنسان أينما وجد، تستمر أحجار الدومينو بالسقوط، لترتفع شعارات وهاشتاغات داعية إلى مزيد من الجرأة والقوة في التبليغ عن حالات التحرش، لمواجهة النظرة المجتمعية السلبية تجاه كل من تشتكي متحرشاً، فالكل يرمقها باتهام لها في أخلاقها، أو لباسها، ليصل الأمر منتهاه باتهامها بجريرة غيرها ممن تدعي تحرشاً رغبت فيه إيقاعاً بأحدهم، تبتغي شهرة، أو مكانة، تسعى لإدراكها – وقد ظلمت بنات جنسها – مستغلة جسدها وأنوثتها، ليأتيك الجواب من فضليات محتشمات يخبرننا عن تحرش متعدد الأحوال قد أصابهن كما أصاب الكثيرات غيرهن.

 
وفي غمرة انشدادك لمشهد تتابع سقوط أحجار الدومينو، بين برامج تلفزيونية وإذاعية، وتصريحات حقوقية، ووقفات نسوية، فضلاً عن التفاعلات الفيسبوكية، كلها تتحدث عن دوافع التحرش المرضية، وواقعه الصادم بأرقامه وإحصائياته، وتبحث في ضرورة مجابهته ودفعه، تدرك أنت في لحظة واحدة سقوط آخر أحجار الدومينو ليغيب بريق المشهد، ويسود الصمت، وكأن حجراً واحداً لم يكن واقفاً، فما كان من هذه الأحجار إلا أن دفعت بعضها بعضاً وفق نمط واحد لا يعدو حالة الشكوى من واقع التحرش المؤلم، ورفع الصوت والجهر به لعله يلقى آذاناً مكترثةً تفعّل قانوناً رادعاً مهترئاً، أو تغير واقعاً مجتمعياً مريضاً، تحسم به شأن كل من توسوس له به نفسه من تحرش لفظي أو جسدي، وزد عليه لضرورة العصر التحرش الالكتروني.

 

لكن هيهات، فقد سقط آخر أحجار الدومينو، لينتقل المشهد إلى ما سواه مما يعج به عالمنا من الأحداث، ليبقى هذا المرض الخبيث يستشري في أوصال مجتمعاتنا، بانتظار قوة تستأصله وتدفعه، قوة تتجاوز مرحلة الحديث عنه، والجهر بالشكوى من التألم به، قوة تدرك خطر هذا المرض العضال وتعي أسبابه ونتائجه، فهي تفوق قوة توجيه أصابع الاتهام نحو المعتدي المتحرش مهما كان منصبه، وأياً كانت سلطته، قوة لا تقف عند إسقاط أحجار الدومينو كاملةً على نحو نمطي يلفت الأنظار برهة، لتقف بعد ذلك بكل تبعاتها بسقوط آخر حجر، وكأن أمراً لم يكن. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.