شعار قسم مدونات

فلسطينيو الداخل.. ما بين الهويّة والواقع!

blogs- فلسطين
أقفُ في الطابور الّذي لا ينتهي، وأنا أنظر إلى شاشة هاتفي باستمرار، تبقّت خمس دقائق على انطلاق قطار الساعة الثالثة، وما زالت المجندة تفتش حقيبة شاب عربي يبدو أنّه طالب جامعة في بئر السبع. بقيت دقيقتان على انطلاق القطار، وحين جاء دوري، طلبت المجنّدة هويتي، تفحّصتها، اسمي، الحجاب على رأسي، ثم قالت: "ما الذي تفعلينه هنا؟" نظرتُ إليها وأنا على يقين مسبق أنّ مثل هذه المحادثة ستجري اليوم: "أنا معلمة"، تساءلت فورًا عن السبب الذي يدفعني للعمل في أقصى الجنوب، وأنا التي تسكن عائلتها أقصى الشمال فقلتُ لها إن الوظائف في الشمال شبه معدومة، وإنني بحاجة ماسّة لهذا العمل، وإن القطار سيفوتني إن استمرت هذه المحادثة لدقيقة أخرى.

فقامت بإخراج حقيبتي على الفور من آلة الفحص وجعلت تفحصها بيدها، حين سمعتُ مكبرات الصوت في المحطة: "قطار الساعة الثانية وتسع وخمسين دقيقة على رصيف رقم.." لم أهتم للاستماع إلى الباقي، عرفتُ أنني قد تأخرت، وأن قطار الساعة الثالثة قد انطلق حتما.

عضضتُ على شفتي حين أعطتني الحقيبة، دلفتُ من البوابة الداخلية صوب البهو الرئيسي:"هففف! الجنود منتشرون في كل مكان، إنه الخميس، وها هو جندي ينظر باتجاهي". يوم الخميس في الداخل الفلسطيني، هو أسوأ يوم تفكر فيه بركوب القطار لتعود به إلى الشمال؛ السبب واضح، آخر يوم عمل في الوزارات والجامعات هنا، جميع الطلاب والعاملين يولون وجوههم صوب الجنة، صوب الأرض المحرمة، شمال البلاد.

كيف يمكن لبعض الأفراد توجيه إصبع الاتهام بشكل دائم لنا على أننا نحن في الداخل الفلسطيني سلمنا أرضنا بأيدينا لمحتلنا؟

أعترف أنني كنت قد كففتُ عن التذمر من الركوب بهذا القطار، ربما لأنني اعتدتُ بحكم عملي في الجنوب وكوني حتى اليوم لا أملك رخصة قيادة، وبطبيعة الحال لا أملك سيارة أذهب بها حيث أشاء، لكن المشكلة في هذا الخميس كانت تكمن في أنه تزامن مع عمليات الطعن والدهس التي كانت تتفشى في الكيان المحتل كالطاعون.

ذكرتُ آنفا أن الاكتظاظ في هذا اليوم يكون خانقا، حيث لا تستطيع سوى أن تشتم رائحة الأشخاص المرافقين لك في السفر، المعاناة حين يجلس بجانبك، خلفك أو أمامك، أحد المتدينين اليهود! أعتقد أن سكان الداخل المحتل سيفهمون ما أرمي إليه. انتظرتُ في المحطة حتى موعد انطلاق القطار التالي، كان الانتظار صعبا، كنت العربية الوحيدة بين كل الجالسين على الرصيف، عربية، فلسطينية، محجبة، في ظل أوضاع البلاد المشتعلة! كان الجنود ينظرون إليّ في كل حين، في حين ألا أحد منهم يجلس في الكرسي المجاور لي، بصراحة كنت ممتنة لهم.

 حين انطلق قطار الساعة الرابعة، كنت الأخيرة التي تصعد إليه، حيث لم أجد مكانا لأجلس في المقطورة، اخترتُ الدرج الذي يربط الطبقة العليا بالسفلى، ممسكة بيدي كتابا لسوزان أبو الهوى لأكمل قراءته. في منتصف الطريق، حين توقف القطار في محطة تل أبيب "الشيخ مؤنس"، جاء المفتش الذي يفحص بطاقات السفر، ليتأكد من أن الركاب دفعوا ثمن البطاقة في المحطة، أمسك بطاقة السفر خاصتي، ووضعها على الآلة الصغيرة التي يحملها، ثم قال بلكنته العبرية: "بطاقتك غير صالحة للاستخدام، هل لديك ما يثبت أنك دفعتِ في المحطة؟".

نظرتُ إليه مدركة أنه يفعل ذلك ليدفعني صوب مشكلة أنا في غنًى عنها، بكل هدوء، فتحت حقيبتي الصغيرة، مشهرةً في وجهه وصل الدفع الذي قمت بأخذه من محطة بئر السبع، نظر إليّ بارتياب، ثم اضطر لتركي أكمل سفري نحو عكّا بأمان. بالصدفة ذاتها التي جعلتني أصعد في قطار هذا اليوم، مع كل الأشياء التي مررتُ بها، وصلت رسالة إلى هاتفي من صديق أردني ذي جذور فلسطينية يقيم في الإمارات قائلًا لي: "انتبهي ع حالك، بطمّنش الوضع عندكو، تطلعيش بالمواصلات".

ويظل السؤال العالق في ذهني هنا، كيف يمكن لبعض الأفراد توجيه إصبع الاتهام بشكل دائم لنا على أننا نحن في الداخل الفلسطيني سلمنا أرضنا بأيدينا لمحتلنا؟ وكيف يخطر لهم أننا في ظل كل الظروف التي تحيط بنا من الممكن أن نكون إسرائيليين لمجرد أنه فُرض علينا أن نحمل هوية زرقاء ترافقنا حيثما حللنا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.