شعار قسم مدونات

عن عاشق من زمن آخر..

blogs - reading
كالعادة، لمحت عيناك كلمة العشق فأثار مرآها انتباهك.. لا تكن متسرعا أرجوك! الحقيقة حمالة أوجه، والعشق كذلك، وما أقصده هنا ليس بالضرورة كما تتصور أنت، مفهوم؟ طيب، تعال إذن لأحدثك عن عاشق من نوع آخر..

فاقت شهرته الآفاق، وربما كتب عنه كثيرون قبلي، بعدما قام مصور بالتقاط صورة له انتشرت بسرعة البرق في وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقلتها بعض وسائل الإعلام المغربية والعربية وربما الدولية أيضا، وأصبحت مرادفة لحب المطالعة ومرافقة خير جليس في الأنام: الكتاب..

حدجنا "العبدي" بنظرات تجمع بين الحدة والعمق، عندما انتبه إلى قدومنا نحو محله الصغير، وهو يرى شبابا في مقتبل العمر، يتجاهلون صفا من المحلات المتخصصة في المعدات التكنولوجية، فقط للبحث عن حكمة منشودة عنده.

جمعني لقاء ببعض الأصدقاء الأعزاء في العاصمة المغربية الرباط، تجولنا بين دروبها وأزقتها الأثرية القديمة، وعندما دخلنا إلى حي "لكزا" الرباطي الشهير، والذي حولته السنوات إلى مقصد لكل باحث عن الجديد في عوالم الحواسيب والهواتف المحمولة والإلكترونيات، قررنا زيارة آخر من تبقى ربما من عبق سنوات ما قبل الثورة التكنولوجية، إنه "العبدي"، أشهر بائعي الكتب المستعملة في الرباط.

المحل صغير جدا لدرجة تجعل صاحبه غير قادر على مد أرجله بشكل كامل إن أراد الاستلقاء، وبالكاد يستطيع الوقوف داخله دون انحناء، فيذكرك ذلك بزنازين التعذيب التي نسمع عنها هنا وهناك، لكنه مليء بالكتب والمجلات والمخطوطات القديمة التي يخيل إليك معها أنك داخل إلى مغارة علي بابا، وإن كانت كنوزها وذخائرها أغلى بكثير من الذهب! كما أنه يشعرك بانتقال غريب إلى زمن آخر لا علاقة له بالقرن الحالي، فتكاد تجزم بأن آلة الزمن حقيقة واقعة وليست خيالا!

 
أما العجوز المعروف باسم "العبدي"، فيستحق لوحده وصفا كاملا: هو في منتصف الستينات من عمره على أبعد تقدير، نحيف البنية، غزا شعره الشيب واجتاحت وجهه الهادئ التجاعيد، اسمه الحقيقي محمد العزيزي، واشتهر بلقب العبدي لأنه ينتمي إلى منطقة عبدة المغربية، يرتدي نظارات سميكة، يدخن بشراهة كقاطرة بخارية في ولاية تكساس أواخر القرن التاسع عشر، ولا أدري لماذا ذكرني منظره بالعجوز رفعت إسماعيل، الشخصية الشهيرة في سلسلة ما وراء الطبيعة للأديب المصري الساخر أحمد خالد توفيق، والطريف هنا أن رفعت هذا يدخن كبرلين عندما دخلها الحلفاء، على رأي الكاتب!

حدجنا العبدي بنظرات تجمع بين الحدة والعمق، عندما انتبه إلى قدومنا نحو محله الصغير، قبل أن تتهلل أساريره وهو يرى شبابا في مقتبل العمر، يتجاهلون صفا من المحلات المتخصصة في بيع وإصلاح المعدات التكنولوجية، فقط للبحث عن حكمة منشودة عنده.

وبالفعل.. عثرنا وسط أكوام الكتب القديمة على كنوز لا تقدر بثمن، (روايات عربية وعالمية بطبعات عتيقة، أعداد قديمة من سلسلة شراع المغربية الشهيرة التي طبعت خلال فترة التسعينيات وكان كتاب حوار التواصل لعالم المستقبليات الراحل المهدي المنجرة أول من افتتحها، أعداد من مجلات العربي الكويتية وعالم الفكر والمستقبل والعلوم والحياة الفرنسية وغيرها، علاها الغبار وتآكلت صفحاتها، تعود بعضها لستينيات وسبعينيات القرن الماضي، نسخة من كتاب البيان والتبيين للجاحظ، كتب عن أهم أحداث التسعينات كالعشرية السوداء في الجزائر وحرب البلقان إلخ…)

كم كان صادقا عندما قال لي بابتسامة وديعة: "لم أركب طائرة قط، لكنني زرت كل دول العالم وأنا جالس في محلي الصغير هذا!"

وجدنا أنفسنا أمام موسوعة بشرية حقيقية، قارئ لا يشبع، غادر مقاعد الدراسة في الثانية عشرة من عمره، لكنه يتحدث العربية والفرنسية بطلاقة ملفتة للنظر، بدأ حياته ببيع مجلات فنية فرنسية وكتب قديمة في السوق قبل أن يتمكن من تدبير ثمن المحل بعد مجهود كبير، ليستقر فيه منذ أزيد من ثلاثة عقود، فقط لأنه كرس حياته لمعشوقه الأوحد على حد تعبيره: الكتاب!

ناقشنا معه مختلف المواضيع فعثرنا عنده على إجابات شافية وصبورة أمام اندفاعنا، من يخوض معه في تاريخ الريف المغربي وصراع المجاهد عبد الكريم الخطابي مع القوى الاستعمارية، من يلتقط له صورا بكاميرته من زوايا مختلفة فيبدي ملاحظاته الدقيقة حول بعض تقنيات فن التصوير.

وأنا أنهل (رغم ضيق الوقت) من خبرته الكبيرة في الأعمال الأدبية، سواء العربية أو العالمية، وعلاقتها الوطيدة بتوثيق تاريخ الشعوب، وكم كان صادقا عندما قال لي بابتسامة وديعة: "لم أركب طائرة قط، لكنني زرت كل دول العالم وأنا جالس في محلي الصغير هذا!"

كم تمنيت لو أن نقاشاتي معه طالت إلى ما لا نهاية، لكن الأصدقاء استوقفوني نظرا لالتزامنا ببرنامج الجولة، فودعت العبدي مع وعد بالعودة في وقت لاحق، ليختم كلامه بالقول وهو منهمك في ترميم كتاب أنهكته الأعوام فتمزقت بعض صفحاته: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) صدق الله العظيم.

ألم أقل لك بأن للعشق أوجها أخرى لا علاقة لها بما ظننته أنت في البداية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.