شعار قسم مدونات

لعنةُ الفقد

BLOGS-- بعد الموت
أذكر يوم وفاةِ جدتي، كان عمري يومها لا يتعدى ثلاث سنين، لكني أذكره جيدًا، أذكر تفاصيلًا تدهشني دقتها، أذكر أمي جاثيةً على ركبتيها فور صعودِ الروح، أذكر صرخة خالتي الصغرى وهي تنادي ماما، أذكر أبي وهو يلقي العزاء على أمي؛ أي اصبري فكلنا لها، أراه يجفف دمعها ويبكي، ثم تغيبُ أمي بين ضلوعهِ وكأنها تبحثُ في ثناياهُ عن ضلعِ أمها، وبين هذا أتوسط ببلاهةٍ أخي وابن خالتي، لأرى جثة جدتي تُرفع أعلانا لتنطلق إلى حجرة الغسل ومن ثمَّ إلى مثواها الأخير. 

حين جدي تبدوا الذكريات أكثر وضوحًا كونها ارتبطت بعبقٍ أكبر من طفولتي، ذهبتُ لأوقظه، كان وعده أن يأتي ببالونة العيد التي أطاحت بها أمي خلف الدولاب غدًا، قال نم وغدًا آتي بها إليك، حين استيقظت كان شغلي الشاغل هل ستُلقي أمي بالبالونة ذاتها في المكان ذاته حال غياب جدي، ومن سيجلبها لي حينها؟  هرولت إلى سريره، انتظرُ أن ينهرني لأنام، أو يخبئني أسفل غطاءه ويضرب بيدي على وجهي، ويقول لا تضرب نفسك يا عبد الرحمن، أو يمسكَ بيدي ليقول هذهِ البيضةُ وهذا الذي سلقها، إلى أن يدغدغ بأصابعه البالية بطني فأضحك ثم من كثرة الضحك أبكي، انتظرُ صوت ندائه على أمي؛ سآخذ صبيكِ أجلب له الشمعدان ثم يعود. 

لم يتغير حالي بين جدي وجدتي كثيرًا، ماتت جدتي بالسرطان ومات جدي بسكتةٍ قلبية دون أي أمراض، لكنهما اشتركا في أنهما معمرين، على الأقل بالنسبة لي في هذا الوقت.

لكن اليوم كان مغايرًا لسواه، أبصرتُ جدي ملقًا على الأرض متكورًا في حاله، صحت في عُجبٍ يا جدي، يا جدي! ثم لما لم يحرِ جوابًا هرولت ناحيةَ سرير أمي، لأخبرها أن جدي نائمٌ على الأرض.  رأيت الفزع في وجه أمي، لم تجبني.. فقط سبقتني إلى الحجرة المجاورة ثم عادت لتوقظ أبي، عاد أبي يحمل جدي إلى السرير ذاته الذي كان يحملني فيه جدي، قال لأمي سيكون بخير؛ رأيت أمي ترتجف من الخوف، وأبي يتصلُ بالمستشفى.. لحظاتٌ ووصل الطبيب، أجرى بعض الفحوصات أخبر أبي وأمي أن الرجل فارق الحياة، لم تنتظر أمي خروجه، صرخت كصراخها يوم فراق جدتي أو ربما أكثر، رأيتها تئن جانب جسدِه رحمه الله، تطلبُ له الرحمة، وتطلبُ من الله أن يمهلها الصبر.

لم يتغير حالي بين جدي وجدتي كثيرًا، ماتت جدتي بالسرطان ومات جدي بسكتةٍ قلبية دون أي أمراض، لكنهما اشتركا في أنهما معمرين، على الأقل بالنسبة لي في هذا الوقت. يمرُ العمرُ لأقفَ وأنا أعدُ عشر سنينٍ أو أزيدُ عامًا مع أبي يوم عزاء عمي، وهو الذي وصل قبل بضعٍ سنينٍ من العراق إثر اندلاع الحربِ فيها، رُغم أنني كنتُ أكثر وعيًا لكني لم آبه كثيرًا، لم آبه لأني لا أملكُ ذكرياتٍ معه، فقط حزنتُ لأنهُ عمي، ولأنني كنتُ أراهُ يومًا يستندُ على الأريكةِ التي أستندُ أنا عليها الآن.

يصلُ جارنا رفقةَ أمهِ على كرسيٍ يتحرك عليه، استغربُ جلوسه على الكرسي رغم أنه كان فتيًا مفتول العضلات، أصعدُ به إلى الطابق السادس بعد منتصف الليل، وأعود أقول سأزوره غدًا، لكنني أحمل هم وجهه طيلة الليل، أحكي لأمي، يصيبها الوجلُ، ماذا يشغلك! فأجيبها لم أره في حالةٍ كهذه طيلةَ عمري، أخشى أن تكون ليلته الأخيرة.

يشرق الصبح ليخبرني أخي، مات جارُنا صاحبُ التسعِ والعشرين، لم أجد نفسي إلا وأنا أضع يدي على رأسي، وأقولُ يا ليتني ما تركته، يا ليتني .. ماذا كنت لأفعل؟ لا أدري!  ربما أردت أن ألقنه الشهادة واقرأ عليه بعض آيات الذكر قبيلَ صعود روحه، شيعهُ أبي، واصطحبتني جثتهُ إلى القبرُ، كانت المرة الأولى التي أنزلُ فيها قبرًا، فزعتُ لوهلة فور رؤيتي لعظام الموتى وقد بُليت أجسادهم، كان منظرًا لم أشهد مثله في حياتي، رُغم أني لا أعلم سبب خوفي إلا أنني بتُ ليالٍ أخشى الموتَ بعد هذهِ الليلة.

على شاطئِ عروسِ المتوسطِ جلستُ أنا وهي، كانت تكبرني بعامين، لكنها من اختارها قلبي كمدًا، أخبرتها أن جُلَ ما أخشى هو الفقد، أخاف فقد أهلي وخلاني ومن أُحب، أخافُ فقدكِ أنتِ؛ فَوَلَتْ مدبرةً بغيرِ رجعة.

لماذا خفت، لماذا تنهمر العبراتُ على وجنتَّي الآن، لماذا أغالبُ البكاءَ وأنا أحكي عن الموتِ وأنا ابن واحدٍ وعشرين؟ الحقُ أنني أخافُ الفقد، الطفلُ الذي وقفَ لا يبالي جنازةَ جدهِ أو جدته وقد كان يحبهما وربما انتابهُ الشعورُ ذاته يوم عمِهِ، يتملى اليومَ من وجهِ أمه وهي نائمة، يخشى فقدها، يعتنقها إذا لزم الأمر، يهرولُ على أبيه كلما سنحت له الفرصةُ في ذلك، يشبهُ في ذلكَ نفسهُ وهو ابن خمسٍ أو سبع، يقتنصُ الدقائقَ من عمرِه، ليتحاكى أحواله رفقةَ أبيه وأمه، أجلس بين رفاقي مِن مَنْ هم في نفس سني، أعدُ من تبقى، تغربَ أحدنا إثر الحكمِ عليه ببضعِ سنين، والآخرُ قضى نحبَه، والثالثُ شغلته الحياة، والرابعُ تزوج، والبقية ينتظرون، وأنا فقيدٌ أَعُدُ الأيامَ التي تبقت لنا سويًا.

على شاطئِ عروسِ المتوسطِ جلستُ أنا وهي، كانت تكبرني بعامين، لكنها من اختارها قلبي كمدًا، أخبرتها أن جُلَ ما أخشى هو الفقد، أخاف فقد أهلي وخلاني ومن أُحب، أخافُ فقدكِ أنتِ؛ فَوَلَتْ مدبرةً بغيرِ رجعة، أراها هي آسرةُ قلبي وهي تبتعدُ ملقيةً ما قُلتُ عرض البحر. مثلٌ قديمٌ يقول "اللي يخاف من العفريت يطلعله" ، ولا أظنُ أني أخشى عفريتًا كعفريت الفقد، حتى أني بِتُ انتظرُ ظهورَه، أتوحشهُ حينما يغيب، لكني أهابُ ظهورَهُ على هيئةِ من أُحب.
 

هل سيدُور الزمن وأجدُ نفسي أقف لأتلقى العزاءَ في أمي؟ هل سأحمل نعشَ أبي كما حملَ هو نعشَ جدي؟ التفكيرُ وحدهُ في الأمرِ يؤذيني، لستُ أحتملُ فقدانهم، وإن كانت هذهِ سُنة الحياة، فأنا لا أطيقُ أن أرى سننَ الحياةِ ولا فروضها إن كانت تتعلقُ بمن أحب. فقط يتبقى أن اسأل ماذا لو طلعَ الصبحُ أو غابت الشمسُ ولم أجد أبي أو أمي؟ ماذا عساي أن أفعل! يظلُ فقدهم غصةً تشي بخوفي وإن ادعيتُ غير ذلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.