شعار قسم مدونات

سلمان العودة.. شكرا لتحطيمك أصناما مجتمعية

blogs - Salman
إذا كنت ممن فقد عزيزا على قلبه، وأصبحت الحياة في عينيه سوداء، أو كنت ممن لم يكتوي بنار الفقد بعد، وتظن بأن العمر طويل، فهذا المقال لك، وعذرا مسبقا لأنني سأطرق باب ذكرياتك الحزينة، ولكنني مضطر لأفتح عيني وعينك على حقيقة العيش بعد فقد عزيز على القلب.

الموت! تلك النهاية الحتمية لأي إنسان على هذه الأرض، تلك النهاية التي نعرفها ولكننا نتجاهلها أو نتناساها مع زحمة الحياة وملهياتها، فنحسب أننا في الحياة مخلدون، فنصول ونجول، ونفكر دائما بالإنجازات والحياة المادية، في تفكير متواصل ومستمر بعضه مرغوب لعمارة الأرض والإنسان، وبعضه مذموم يهلك الحرث والنسل. ومع هذا التفكير المتواصل يأتي الموت لأعز المقربين إلينا ومن دون سابق إنذار ليقل لنا "توقف وراجع نفسك وأعمالك مع من حولك"، يأتي ليقل "لقد حان الوقت لتنتبه لتلك التفاصيل الصغيرة التي تعيش معك ولكن دون أن تعيرها اهتماما". هو بالتأكيد يأتي كمفاجأة غير سارة، بل كمفاجأة تخطف العقل والروح، واللبيب من ترّفع عن ألم لحظة الفراق، وجعل لنفسه خلوة في هذه الأوقات يراجع بها حياته، فلا واعظ للإنسان أكثر من هذه الأوقات.

ربما يكون هذا المقال واحدا من المقالات الكثيرة التي تحدثت عن الفاجعة التي ألمت بالدكتور سلمان العودة، وما تليها من مواقف وعبارات ومقالات كثيرة أشادت بعظمة صبره عند المصيبة وتقبله للفاجعة راضيا محتسبا ومتضرعا إلى الله. لكن الحديث هنا سيكون ذا خصوصية، فلن يتناول هذا المقال الحديث عن الحادثة، وإنما عن تقديم شكر واجب له على ما خطّه من مقالات يرثي فيها زوجته وابنه بكلمات مفعمة بالحب والوفاء، وبعبارات مليئة بالنصح والإرشاد لجيل أنهكته ملهيات الحياة فتحجرت القلوب ولم تعد الكلمات الجميلة تجد طريقها للآذان.

إن ما خطّه من مقالات كانت بمثابة الطرق على خزّان الأنانية وحب الذات، وتضييع الوقت وعدم الاستفادة منه، بل إنها كانت بمثابة الحرب على الكراهية، والحقد، وتكسيرا لأصنام المجتمع المختلفة كصنم حبس العبارات الجميلة لمن يحتاجها بحجة الوقار، وصنم عدم قضاء وقت مع العائلة بحجة الانشغالات، وصنم عدم تلفظ الرجل بكلمات الود لأمه أو أخواته أو زوجته بحجة "العيب" أو بحجة "وماذا يقول عنّي الناس!!"، وكثير من الأصنام المجتمعية المختلفة التي تعيق الواحد منّا عن التعبير عما بداخله لمن حوله، فتجعله منهمكا في الحياة متناسيا أهم ما في هذه الحياة وهو "الإنسان من حولنا".

شكرا له لأنه رثى زوجته وابنه فجعلنا نقرأ كيف يكون استثمار وقت الفاجعة، وكيف يكون السعي في هذه الحياة بعد موت عزيز أو قريب. شكرا له لأنه جعلنا نرى نموذجا نحاجج به أولئك متحجري القلوب.

قلّي بربك عن آخر مرة كنت فيها بلسما لعائلتك، تجالسهم وتلاطفهم، وتقضي حاجياتهم؟ قلي بالله عليك عن آخر مرّة قبّلت بها يد أمك وأبيك، أو زرت أختك أو أخيك وتجمعتم في أجواء مفعمة بالحب؟

كم مرّة عدت بها إلى المنزل بعد يوم مرهق ومتعب، ودخلت غرفتك وأغلقت الباب عليك دون أن تخرج منها لساعات طويلة لتسلّم بها على أهلك؟ وماذا عن كلمات الحب لزوجتك؟ ومساعدتها في أعمال المنزل توددا منك وعطفا؟ هل تنتظر أن يفجعك موت أحدهم حتى تستيقظ من غفلة الدنيا وملهياتها؟ فينكسر قلبك وتلعن الدنيا بأنها لم تترك لك وقتا تقضيه معهم؟ وبأنها لم تطل في أعمارهم لكي تقضي معهم وقتا أطول؟

ما أعظم تلك الحياة التي نقضيها برفقة من نحب، مستفيدين من كل دقيقة نعيش فيها لندخل الفرح والسعادة عليهم، فإذا كنت لم تكتو بنار الفقد بعد فالوقت أمامك، ونصيحة الدكتور سلمان أمامك، وهذا المقال أمامك، فانزع من نفسك تحجّر القلب، واجعل لسانك منطلقا بكلمات العطف، وخصص من وقتك الكثير لهم. أما أنت يا من فقدت عزيز، فمثلي مثلك، يعتصرنا الألم والحزن، ولكن الحياة يجب أن لا تتوقف، ومع كل هذا الألم الذي نعيشه، يجب أن لا ننسى بأن من رحلوا من حياتنا، يتطلعون لأن يروا منّا كل جهد وخير، ويحبون بأن يجدوا من بعدهم من يكملوا المسيرة التي كانوا يسيرون بها.

شكرا للدكتور سلمان العودة، شكرا من القلب على كل كلمة كتبها في حق زوجته وابنه -رحمهما الله-، شكرا له على كل كلمة تفوّه بها في الفيديو الذي انتشر عنه وهو يحث متابعيه على التفوه بكلمات الحب والعطف لعائلاتهم وأبنائهم، شكرا له لأنه طرق خزّان "توهم العيب" في قضاء الوقت مع العائلة، شكرا له لأنه رثى زوجته وابنه فجعلنا نقرأ كيف يكون استثمار وقت الفاجعة، وكيف يكون السعي في هذه الحياة بعد موت عزيز أو قريب. شكرا له لأنه جعلنا نرى نموذجا نحاجج به أولئك متحجري القلوب، متصنعي القوّة، فاقدي الإحساس. شكرا له لأنه زرع وردة نصح لأجيال متعاقبة في وقت كانت الحياة من حوله صحراء باهتة، ولكنه آثر أن تنمو هذه الوردة في هذه الصحراء لعلها تكون في يوم واحة خضراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.