شعار قسم مدونات

أعيدوني إلى العصر الجاهلي

blogs - رجل في مكتبة
أُهدي ما خطه قلمي أسفله إلى أولئك العاجزين الذين ما فعلوا ولن يفعلوا ما يذكرهم به التاريخ يوما، وإنَّ ادعاءات البصمة والإنجازات الذين يدعونها هي مجرد هرطقات يخجل أخي الصغير أن يضعها في آخر صفحة ما بعد الفهرس مباشرة في أحد دفاتر مذكراته المُتكدسة على السطح العلوي من خزانته.

إلى اولئك الذين يعيبون علينا تجميع كلماتنا وتنقيحها للتعبير عمّا نشعر به في قلوبنا، إلى الذين يزعمون ألا شفاء في الفُصحى، إلى الذين ليس بيدهم سوى الانتقاد والتنظير، إلى الذين قالت لي جدتي عنهم: "في الوجه مراية وفي الظهر حرباية".

إلى الذين قيل عنهم قديمًا: "اتقِّ شر من أحسنت إليه". إليكم أُهدي تدوينتي هذه، وأذكركم أن الساحة أمامكم والقلم بجانبكم، فكونوا لنا قدوة العمل والكتابة، وأرونا ماذا ستصنعون. وإلى ذلك الحين والحين هنا تشمل المدة ما بين العصر الجاهلي إلى 2017 فأنا لا أُحبذ الاستماع إلى أي نظريات هالكة مُبتذلة، بل أُريدُ أن أرى ماذا ستصنعون بِأُمِ عيني.

قيل لي: "لا تكتب بالفصحى"، وأقول أنا: "الفصحى ما هي إلا للعصر الجاهليّ والعصر الجاهليّ ما هو إلا الفصحى". قيل لي: "احذر من عدوك مرة ومن الأشخاص المقربين لك مائة مرة"، أَظن أنني تناسيت هذا القول، أو ربما فعلت كما يفعل الفرسان النُبلاء في تعاملهم مع الأحداث، فالحمداني أبو فراس لم ير في الأسر عيباً بل فضلّهُ على الهروب، وخالد بن الوليد مات متمنياً الموت على ظهر فرسه في إحدى المعارك، والنجاشي رحب بالُمسلمين مُتحدياً بطش قُريش.

لو كان العصر الجاهلي عصرًا تافهاً كما أشيع عنه؛ لما أخرج لنا الخنساء وصخراً أخوها الفارس والقائمة تطول بالمُبدعين، بِربكم هل يوجد مُقارنة؟

أعيدوني إلى العصر الجاهلي، أودٌّ أن أعود إلى العصر الجاهليّ، أنا حقًا أُريد العودة إلى العصر الجاهليّ، أنا عازم على العودة إلى العصر الجاهليّ، أنا جاهليّ الهوى.

إن من ركاكة فكر البعض؛ ميلهم إلى الظن أن العصر الجاهلي هو عصر جهلٍ بحق، وذلك استنادًا إلى لفظ (جاهلي)، لكن المُتعمق في حقيقة العصر الجاهلي، يراه مُجتمعًا فيه بعض الشيء من التكامل، وأكادُ أجزم أنَّهُ أفضل من مجتمعاتنا الحاليّة، فعلى سبيل المثال، النفاق الموجود حالياً هو أقوى من النفاق سابقاً، حتى إنَّ المنافقين الذين وجدوا بعد هجرة رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- كانوا أقل نِفاقًا، فكبير المنافقين عبدالله بن أبي سلول ما هو إلا تلميذ صغير لم يحظَ بفرصة التلمذة على أيدي نخبة من منافقي هذا العصر، ولم يرَ النفاق الذي يُدرَّس للشيطان اليوم.

قديماً كان لدينا سوق لـ بيع الكلام يطلق عليه سوق عُكاظ، وحديثاً لدينا سوق ضخم لبيع الكلام يطلق عليه موقع للتواصل الاجتماعي، غير أنَّ الفرق ما بين السوقين هو أنَّ السوق الأول يضم شاعرًا دخل السوق فقيراً، ومن شدة فقره وجوعه صاغ كلمات جعلته يخرج فارساً على ظهر فرسٍ أصيل متوّجهاً إلى قصره، بينما السوق الآخر يضم باعة متجولين عبر مواقع التواصل يطلق عليهم ناشطون، بالإضافةً إلى فرق عظيم بين التاجرين، فالأول دخل السوق لأنه جائع فـباع شعره ليكتسب وليبيت بطنه مُمتلئًا، والثاني دخل مواقع التواصل لأنه يملك مُتسعًا من الوقت وبدأ بالنشاط إرضاء لـِعقله المُتحجر. ومن باب الإيضاح ليس إلا، أنا هُنا أتحدث عن الناشطين المشهورين على مستوى عائلاتهم فقط، ولا أتحدث عن أي ناشط يُضحي بروحه أو بِقلمه أو حتى بعائلته من أجل إظهار الحقيقة، فـهذا له في القلب مكان لا يتنحى عنه.

لو كان العصر الجاهلي عصرًا تافهاً كما أشيع عنه؛ لما أخرج لنا الخنساء وصخراً أخوها الفارس والقائمة تطول بالمُبدعين، بِربكم هل يوجد مُقارنة؟ أقسم لكم أنَّ عصرنا الحالي هو أشد تفاهةً وسُخفًا.

أذكر أنني في الصف الثامن المتعارف عليه محلياً أو الثاني إعدادي كما هو متعارف عليه عربيّاً، قُمت بِدراسة قصيدة لِشاعر أدرك الجاهلية يُطلق عليه الحُطيئة، العجيب بالحُطيئة أنه ومن شدة صراحته في تلك القصيدة وصل به الأمر إلى أن يهجي نفسه، أستحلفكم بالله، أيوجد شخص عاقل في عصرنا ينتقد نفسه؟

العبودية قديما كانت للسيد وأفكاره، لكن العبيد أيضاً اختاروا السيادة والحريّة، فالحبشي بلال بن رباح كسر قيده وحلّق في شمس الإسلام مشرقًا، بينما عبيد هذا العصر لم يتحرروا من أفكارهم بعد.

إن العصر الجاهلي عصرٌ غزير العظمة، فعلى الرغم من معاناتهم من الكفر والبطش، الذي منَّ الله علينا بالشفاء مِنهُ، إلا أنهم كانوا أقل بطشاً منّا، ربما ميزتنا الوحيدة أننا خُلقنا مُسلمين وهو أمر لم نختره أيضاً، بل وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، ومن باب التذكير عندما دخل الإسلام على الجاهليين كان جوابهم: "كيف نترك ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا؟"، الإجابة واحدة والمُعتقد مختلف، لهذا أستحلفكم بالله أعيدوني للعصر الجاهلي.

والآن! ماذا لو أخبرتكم أن أهم العلوم التي تداولها الجاهليّون هي قيافة البشر: وهي عِلمٌ يُمكّن صاحبهُ من التعرف على الأنساب عن طريق الوجه، وفي عصرنا الحالي لا نستطيع التمييز بين الفتى وأبيه، بعد هذه المعلومة الضخمة، هل بقي شخص عاقل يسخر من العصر الجاهلي؟

بعد كل هذه الأفضلية للعصر الجاهلي والتي يُمكن أن نعتبرها أفضليّة مطلقة، اسمحوا لي أعزائي القرّاء أن أستبدل المُسميات، فالعصر الحالي منذ اليوم هو العصر الجاهلي، والعصر ما قبل الإسلام هو العصر المتطور.

وأختم هذه المخطوطات بتشابه فظيع، ولكن للأسف مع أفضليّة جديدة للعصر المتطور (الجاهليّ سابقاَ)، فعبيد هذا العصر ما هم إلا عبيد لأوهام تملأ رؤوسهم وعقولهم ليلاً، ولا ينتهي بهم الأمر إلى موت أفكارهم أو انتهائها حتى يبحثوا عن أفكار وأوهام جديدة.

ومن الجدير ذكره أن العبودية قديما كانت للسيد وأفكاره، لكن العبيد أيضاً اختاروا السيادة والحريّة، فالحبشي بلال بن رباح كسر قيده وحلّق في شمس الإسلام مشرقًا، بينما عبيد هذا العصر لم يتحرروا من أفكارهم بعد. وأؤكد لك عزيزي القارئ أنا لا أنتقص الخير هنا، فالرسول أخبرنا: "أنَّ الخير بأمته إلى يوم الدين"، لكننا بحاجة إلى صياغة مفاهيمنا وثقافاتنا، وإلا فالأجدر بنا المُطالبة بالعودة إلى العصر الجاهلي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.