شعار قسم مدونات

"غوانتنامو قصَتي".. في مبنى الاستخبارات الباكستانية

blogs - guantanamo
ظللت في تلك الغرفة بمبنى الاستخبارات "الباكستانية" ثلاثةً وعشرين يومًا تقريبًا من السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول إلى السابع من يناير/كانون الثاني، وفي صباح ذلك اليوم أخبروني بأنهم تلقَّوا أمرًا بتسليمي إلى حكومة السودان، فسعدت. اتصلت بالسفارة القطرية، وأبلغت السكرتير الثاني بما أبلغني به الباكستانيون، فقال: إنهم يخدعونك، وقد طلبنا ملف جوازك لتفنيد زعمهم بأنه مزوَّر، وتبين أن بالملف خطأ طلبنا تصحيحه وأعدناه للباكستانيين الذين تبين أنهم مصرُّون على أن تقابل بعض الشخصيات الأميركية للتأكد من شخصيتك، ونحن ما زلنا على اتصال بهم، وسيلتقي سعادة السفير وزير الداخلية اليوم في موضوعك.

كنت حتى ذلك الوقت أتحرك بحرية، وإن لم يسمحوا لي بمغادرة المبنى، ولم يقيدوني ولم يستخدموا معي السلاسل، ولكنني في ذلك اليوم رأيت السلاسل والقيود. كنت في بعض الليالي أرى حارسًا يجلس أمام غرفتي وهو يحمل بندقية، وكنت أتعجب من ذلك. كان معي جهاز راديو، وكنت أستمع لما حصل مع بعض المعتقلين العرب حيث كانوا يُنقَلون في حافلات، ودخلوا في اشتباكات مع الشرطة قُتل فيها أشخاص من الطرفين، وفهمت أن ذلك التشديد هو على خلفية تلك الحوادث.

 

قال لي الأفغاني: أنا صديق الضابط "أفتاب" وأستطيع أن أساعدك وأطلب منه إطلاق سراحك، وسيقوم بذلك. شكرته باقتضاب، وقلت له: إنني لا أحتاج إلى تدخل من أحد، فموضوعي يتعلق بخطأ سيتم تصحيحه.

كنت خلال تلك الأيام العشرين أتحرك في المبنى بحرية، فكنت أخرج للحمامات وهي منفصلة عن المبنى، وكنت أسخِّن الماء لأن الوقت كان شتاء، كما كنت أشتري الأكل من مالي الخاص، وأذكر أنني توعكت في الأيام الأولى فجاؤوني بطبيب أعطاني أدوية اشتريتها من حسابي الخاص كذلك. وكنت أجلس في الساعات الأولى من الصباح كل يوم، وأستمع للأخبار، وكان كثير من الموظفين الذين يعملون في داخل المكتب يأتون ويجلسون معي، ونتجاذب أطراف الحديث.
 

في أحد الأيام كنت جالسًا في الغرفة، فأتاني أفغاني وسلَّم عليَّ، وتكلم معي بلغة عربية مكسرة، فقال لي: أنا صديق الضابط "أفتاب" وأستطيع أن أساعدك، فقلت له: كيف تساعدني؟ قال: إنني أستطيع أن أطلب منه إطلاق سراحك، وسيقوم بذلك. شكرته باقتضاب، وقلت له: إنني لا أحتاج إلى تدخل من أحد، فموضوعي يتعلق بخطأ سيتم تصحيحه. وفي اليوم الثاني رأيت هذا الشخص الأفغاني وسألته: أين تعلمت العربية؟ فقال لي إنه زار دبي من قبل.
 

جلست أستمع للأخبار، وكان هذا الأفغاني وأحد الباكستانيين العاملين في المكتب يتناقشان حتى احتد بينهما الجدل، فتوجها بكلامهما إلـيَّ، وطلبا مني أن أكون حَكَمًا بينهما. سألتهما عن فحوى الخلاف، فقال لي الباكستاني: إن هذا الأفغاني يدَّعي أنه يملك صواريخ "ستينغر" أميركية وقد كذَّبته. أمَّا الأفغاني فردَّ بأن الصواريخ موجودة لديه فعلًا، وقال للباكستاني على وجه التحدِّي: كم تدفع لي إذا أتيتك بهذه الصواريخ؟ فما كان من الباكستاني إلا أن قال له: سأدفع لك مئة ألف دولار عن كل صاروخ، ورد الأفغاني بأن لديه صاروخين سيحضرهما له.
 

اشتد الخلاف بينهما عندما أدرك الباكستاني أن الأفغاني جاد في كلامه، فقال الباكستاني للأفغاني: إن تلك الصواريخ أصبحت عديمة الفائدة ولو سلَّمنا بوجودها لديك، فصواريخ "ستينغر" أُعطِيت إلى الأفغان من قِبل الحكومة الأميركية إبَّان الحرب الأفغانية-الروسية، وهذه الصواريخ صُنعت في أواخر الثمانينات، وصاروخ "ستينغر" لا تتجاوز صلاحيته للعمل خمس سنوات، وبعدها يصبح عديم الفائدة، وطالما أن هذه الصواريخ صُنعت في تلك الفترة فقد أصبحت الآن لا تساوي شيئًا. فرد الأفغاني بأنه لا يعنيه إن كانت هذه الصواريخ مفيدة أو عديمة الفائدة، وقال: لقد تشارطنا على أن تعطيني مئة ألف دولار عن كل صاروخ "ستينغر" أحضره لك، وأنا سآتيك بصاروخين. ولما أدرك الباكستاني جدية الأفغاني تراجع عن الكلام، وعن الالتزام بالشرط السابق.
 

بعد ذلك تكلم معي الأفغاني بعربية مكسرة، وتحدثت مع الرجلين وعاودت سؤال الأفغاني عن مكان تعلمه العربية فقال إنه زار دبي، وإنه تاجر مخدرات يأخذها من بولدق، ويدخل بها من شمن الباكستانية، ثم ينقلها من شمن إلى كويتا، ومن كويتا إلى كراتشي، حيث يبيعها هناك. ويضيف: إنه قرر إكمال المشوار والسفر إلى دبي ليتفق مع تجار المخدرات هناك. سألته: بكم تشتري هذه المخدرات؟ فقال لي: طبعًا، المخدرات عندنا في أفغانستان رخيصة جدًّا، فإذا كان سعر كيلوغرام الكوكايين في بولدق مئة دولار، فإن سعره يتضاعف مباشرة في كويتا، ليصل إلى خمسة أضعاف في كراتشي، وهذا السعر الأخير يتضاعف عشر مرات في دبي. فقلت له: كيف تهرِّب هذه المخدرات وتوصلها إلى المناطق المقصودة؟ فقال لي: إنني متفق مع هذا الضابط الباكستاني، يعني المقدم أفتاب، وأسافر من شمن إلى كويتا في رحلة تستغرق أربع ساعات إلى خمس؛ حيث توجد نقاط تفتيش كثيرة للشرطة الباكستانية في منطقة جبلية لا يمكن فيها سلوك غير الطريق المعبَّد.
 

سألت الأفغاني: بأي دِين تَدين؟ فقال إنه مسلم. قلت له: أنت مسلم وتبيع المخدرات، ولا تعرف أن ذلك حرام، وأنه من الفساد البـيِّـن في الأرض، لما فيه من تدمير للشباب، وإهلاك للمال والصحة؟ فقال لي: نحن نبيعها لغير المسلمين.

ويضيف التاجر الأفغاني: عادة ما أصعد مع أفتاب في سيارته لتجاوز التفتيش، ويوصلني إلى كويتا لأدفع له مبلغًا من المال مقابل ذلك، ثم أتفق مع ضابط الاستخبارات الخاص بكويتا وأعطيه مبلغًا آخر، وهناك أبيع المخدرات، وقد سافرت إلى دبي مرة للتباحث مع التجار هناك على إدخال المخدرات وإيصالها إليهم.
 

بعدما انتهى من شرح ما يقوم به، سألته: بأي دِين تَدين؟ فقال إنه مسلم. قلت له: أنت مسلم وتبيع المخدرات، ولا تعرف أن ذلك حرام، وأنه من الفساد البـيِّـن في الأرض، لما فيه من تدمير للشباب، وإهلاك للمال والصحة؟ فقال لي: نحن نبيعها لغير المسلمين. قلت له: ومن أباح لك ذلك؟! ثم إنك تبيعها في كراتشي وفي دبي وهذه مناطق مسلمين؟ فتعلل بأن مذهبهم يجيز بيع المخدرات وزراعتها. قلت له: إنني لا أريد مجادلتك حول مذاهبكم، ولكنني أعرف شيئًا واحدًا يعرفه كل مسلم، وهو أن المخدرات من المحرمات في الإسلام ولا يجوز بيعها، ولا نقلها، ولا تعاطيها. وأردفت أنصح الرجل بالتوبة وأن يسترزق بالحلال، ويترك هذه الطريق المحرمة، فأصرَّ على موقفه وقال إن له مخارج وصفَها بأنها "شرعية"! فأبيتُ التواصل معه بعد تلك الحادثة، ولكنني كنت ألاحظ تردده الدائم إلى المكتب.

وفي يوم السفر، وفي تمام الساعة الثامنة ركبنا الحافلة، وقبل أن نركب رأيت خمسة قيود، فاستغربت الأمر. وعندما هممت بصعود الحافلة تقدم أحد الجنود ليقيدني، فنظرت إلى أحد المسؤولين، وكان الذي تجادل مع الأفغاني في موضوع صواريخ "ستينغر"، فنهر الضابط الجندي وقال له: لا تقيده، إن سامي لم يفعل شيئًا، وسيسلَّم لبلده فلا تضع في يديه القيود. وودعني وأعطاني رقم هاتفه، وطلب منِّي الاتصال بالهاتف إن عدت إلى أهلي.

في تلك اللحظة علمت أنه كان في المبنى موقوفون غيري، فعندما ركبت الحافلة رأيت خمسة يظهر من سحناتهم أنهم عرب. فلما دخلت الحافلة ألقيت عليهم السلام فلم يردُّوا، وجلست محاذيًا لهم. كانت هناك سيارتا شرطة تسير إحداهما أمامنا والثانية خلفنا، وكان الضابط أفتاب يستقل سيارة ويركب معه الأفغاني تاجر المخدرات، وذلك ما جعلني أصدق ما تحدَّث به عن تجارته اللعينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.