شعار قسم مدونات

ما بعد الحقيقة

blogs - التفكير
(1)
لنفسح المجال في هذه الفقرة الأولى لنيتشه وهو يتعاطى الفلسفة "قرعاً بالمطرقة" في كتابه الذي يحمل هذه الجملة كعنوان فرعي "غسق الأوثان- أو كيف تتعاطى الفلسفة قرعاً بالمطرقة".
 

كيف تحوَّل العالم الحقيقي في النهاية إلى خرافة "تاريخ خطأ"؟
أ‌- العالم الحقيقي كشيء يُمكن أن يدركه الحكيم، المتديِّن صاحب الفضيلة، -إنه يحيا بداخله، إنه هو. الشكل الأرقى للفكرة. ذكية نسبيا، بسيطة، مقنعة. المبدأ مصاغا بطرقة أُخرى: "أنا أفلاطون، أنا الحق".

ب‌- العالم الحقيقي لا يُدرك الآن، لكنه موعود للحكيم، المتديِّن، صاحب الفضيلة "الخاطئ الذي كفَّر خطيئته". (تطوُّر الفكرة: تصير أكثر رهافة، أكثر مراوغة، أكثر استعصاءً على الإدراك، تصير أُنثى، تصير مسيحية..).
 

ج- العالم الحقيقي لا يدركه أحد، غير قابل للتبيان، لا يُوعد به أحد، لكنه، حتى كمتخيَّل، سلوان وفرض وواجب. الشمس القديمة ذاتها، لكن من وراء الضباب والريبة: الفكرة وقد غدت شاحبة، شمالية، كونيغسبيرغية [نسبة إلى مدينة كونيغسبيرغ الشمالية في ألمانيا، موطن كانط،- أي فكرة قديمة يستعيدها كانط – "المترجم -علي مصباح"].
 

إذا فكَّر الإنسان بأن الحقيقة العارية للأشياء بمعزل عن الوعي ليست بالضرورة جميلة ولا كاملة، فربما ينتهي به الأمر ممتنّا للعالم في حدود الوعي، أو ممتنّا للوعي وحسب باعتباره الكمال والجمال بعينه.

د- العالم الحقيقي لا يُدرك؟ لم يدركه أحد على أية حال. وكعالم لم يدركه أحد، فهو مجهول أيضا. وبالتالي لا هو بسلوان ولا بمخلِّص أو ملزم: بأي شيء يُمكن لشيء مجهول أن يلزمنا. صباح قاتم. التثاؤب الأول للعقل. صياح ديك الوضعية.
 

هـ- العالم الحقيقي فكرة لم تعُد صالحة لشيء، وليست حتى بملزمة، -شيء مُهمل، فكرة غدت فائضة عن اللزوم، وبالتالي فكرة مدحوضة: لنلغها إذن! (نهار مُضيء، فطور، عودة الرشد والمرح، أفلاطون محمرّ خجلا، جلبة جنونية تهز كل العقول الحرة).
 

و- لقد ألغينا العالم الحقيقي، أي عالم سيظل هناك؟ ربما العالم الظاهري؟ كلا! فمع العالم الحقيقي قد ألغينا أيضا عالم الظواهر! ظهيرة: لحظة الظل الأقصر، نهاية أطول خطأ، أعلى أعالي الإنسانية " هُنا يبدأ زرادشت" [في صيغة أُولى هنا تبدأ الفلسفة -"المترجم-علي مصباح"].
 

(2)
في المقال السابق "الحقيقة.. من المعرفة إلى الدين" اقترحت أن البحث عن "الحقيقة " لا يُمكن أن يكون بحثاً معرفيّاً، ولذلك فإن هذه الحقيقة تقع ضمن مجال الرؤية الدينية التي هي انفعال وجداني بالوجود وليست رؤية معرفية للعالم، وكنت قد أوضحت ما الذي أعنيه بـ "الرؤية الدينية كانفعال بالوجود" في مقال يحمل هذا العنوان. بالنسبة لتاريخ الحقيقة كخطأ، كما يقول نيتشه، فإن ذلك الاقتراح ربما يُمكن تصنيفه تحت المرحلة "ج"- مرحلة كانط. على أن نيتشه كان يتكلَّم عن "العالم الحقيقي" كقضية معرفية حتى بالنسبة لكانط وللمسيحية. لا كقضية انفعالية.
 

لقد كان الاقتراح بأن مجال الحقيقة بالمعنى المستحيل على الإدراك ليس المعرفة وإنما الانفعال -بشكل أو بآخر- صدى لمضمون هذه العبارة العنيفة "العالم الحقيقي فكرة لم تعُد صالحة لشيء، وليست حتى بملزمة،-شيء مُهمل، فكرة غدت فائضة عن اللزوم، وبالتالي فكرة مدحوضة: لنلغها إذن!". وذلك ليس على نحو مباشر، وإنما كتفسير لإمكانية استمرار ذلك النزوع نحو "العالم الحقيقي" رغم الاستحالة المعرفية. فإلغاء فكرة "العالم الحقيقي" على المستوى المعرفي لا يعني بالضرورة تجاوزها نهائيّاً، بل يُمكن أن تبقى موجودة في مستوى آخر، هو موطنها الأصلي منذ البداية، قبل أن تُطرح كفكرة على المستوى المعرفي، أو قبل أن تتم صياغتها معرفيّاً.
 

إن وراء البحث المعرفي عن عالم حقيقي يُمكن أن يكون هناك افتراض بأن العالم الحقيقي هو عالم كامل، وجميل. إذن، فسؤال العالم الحقيقي قد يتعلّق بالأمل والتفاؤل. ولكن ماذا لو بدأ الإنسان يفكِّر أن العالم الحقيقي ليس كاملا وليس جميلا بالضرورة؟ ماذا لو فكَّر الإنسان أن ذلك العالم الذي يُمكن أن يُوجد ما وراء الحس والعقل، أي الحقيقة العارية المفترضة للأشياء بمعزل عن الوعي الإنساني، هي عالمٌ بشع ومرعب؟

-هل سبق أن فكرت في أن الأشياء الواقعية، القمر أو النجوم مثلاً أو المناظر الطبيعية الجميلة، يُمكن أن تكون غير جميلة لو لم يكن الذي ينظر إليها هو الإنسان. وبالتالي فإن العالم الحقيقي قد لا يكون بالجمال الذي يبدو عليه بل قد يكون بشعا ومرعبا؟ بالطبع هذا السؤال ينطوي على مغالطة، ولكنه مفيد لتوضيح فكرة التفاؤل أو التشاؤم بشأن العالم الحقيقي.
 

نظريات ميكانيكا الكم التي تضع حدودا لما يُمكن معرفته بالتجربة من الواقع، هي ليست مجرد شكوك، بل هي نظريات تدعمها أُسس.

فإذا فكَّر الإنسان بأن الحقيقة العارية للأشياء بمعزل عن الوعي ليست بالضرورة جميلة ولا كاملة، فربما ينتهي به الأمر ممتنّا للعالم في حدود الوعي، أو ممتنّا للوعي وحسب باعتباره الكمال والجمال بعينه. يمكن أن تكون هذه هي الرهانات غير المعرفية للموقف من العالم الحقيقي نفياً وإثباتا. فالمفارقة العجيبة هي أن التفاؤل بشأن "العالم الحقيقي"، أي افتراض عالم أكثر كمالا، قد يؤدي إلى نفي هذا العالم الذي نعيشه، العالم في حدود الوعي، بوصفه عالما ناقصا .بينما قد يؤدي التشاؤم بخصوص "العالم الحقيقي" الى العكس، إلى تمجيد الحياة كما نحياها الآن.

هذه المفارقة تعبر عن نفسها في فلسفة نيتشه من خلال تلك الحرب على "العدمية" بالمعنى النيتشوي للكلمة، والذي يعني نفي الحياة باسم العقل والحقيقة المتعالية، وفي مقابل هذه "العدمية" يطرح نيتشه ما يسميه "الاستجابة الاثباتية للحياة": نعم للحياة رغم كل شيء. وهذه قضية أساسية في فلسفته، وهي سبب عداءه لكل من سقراط وأفلاطون وكانط والمسيحية.

(3)
إذا نظرنا إلى "الوجود كوعي"، بالمعنى الذي تناولته في مقال سابق، فإن الحقيقة كانفعال وجداني تصبح بغير حاجة إلى مرجعية أعلى لكي تبرر وجودها أو مشروعيتها على مستوى الوعي. لأن الوعي هو كل شيء في هذه الحالة. ولذلك فإن "الحقيقة" التي يتم اختبارها بواسطة التجربة الدينية ليست بحاجة إلى مرجعية من خارج هذه التجربة. وفي الواقع فإن إلغاء العالم الحقيقي كما يدعو له نيتشه يفتح الباب من جديد أمام الوعي لاختبار حقائق جديدة دون الحاجة لمعايرتها بعالم حقيقي لم يعُد موجوداً. مثلما أن الانفعال بالفن ليس بحاجة إلى ضمان معرفي أو مرجعية من خارج الفن نفسه. أي نقد الحقيقة لا يستطيع أن ينال من تلك الحقيقة التي تقود اليها تجربة دينية، إذا لم تكن مطروحة على أنها معرفة.
 

فإذا كان العالم الحقيقي قد تم إلغاءه فإن هذا يفتح المجال واسعا أمام الخلق والإبداع من جديد وهو ما يؤكده نيتشه أيضا. أما إذا كان العالم الحقيقي موجود كإيمان ولكنه أصبح مستحيلا كمعرفة، فإن الطريقة الوحيدة للاقتراب منه هي بواسطة التصوير والتمثيل كما في الدين والفن. وفي هذه الحالة فإن كل ما نملكه هو الصورة والمثال. ليبقى بعد ذلك الظمأ الأنطولوجي بتعبير عبد الجبار الرفاعي، وذلك التوق المتفائل والذي لا يقنع بالصورة والتمثيل، ويبحث عن الأصل، عن الحقيقة نفسها، والتي في النهاية لن تكون موضوعا معرفيا، وهكذا يؤدي إلى الدين باستمرار.
 

(4)
هل ما بعد الحقيقة معرفيا تعني ما بعد العقل؟
أو يُمكن طرح السؤال بطريقة أخرى، هل "إلغاء فكرة الحقيقة" يعني إلغاء العقل؟ أو هل نسبية العقل تعني نهاية سُلطة العقل؟ إن نسبية العقل هي ليست مقابل حقيقة مطلقة قائمة بمعزل عنه، وإنما هي نسبية بالنسبة للعقل نفسه. أي أن العقل هو الذي يكشف عن نسبية نفسه، وليس سُلطة معرفية أُخرى هي التي تفعل ذلك. وعليه فإن كل نقد للعقل هو ليس تقويضاً لسلطته بقدر ما هو تكريس وتعزيز لها.
 

النقد الذي يُقدم للعقل من منظور أخلاقي أو سياسي فهو ليس نقداً يتعلق بالمعرفة، بل باستخدامها وتطبيقاتها، أي هو نقدٌ للممارسة الإنسانية، ومجاله الأخلاق وهو مبحث آخر مختلف.

وحينما نتكلم عن حدود للعقل، فنحن لا نعلي من شأن ما يُوجد ما وراء هذه الحدود أو ننتقصه، وإنما فقط نضعها خارج حدود العقل. فإذا كان الكلام عن واقع ما وراء العقل فإن هذا الواقع هو افتراض بالنسبة للعقل، وإذا كانت معرفة فإن هذه المعرفة تُسمى معرفة لا-عقلية أو معرفة بلا مشروعية عقلية. أما إذا تكلمنا عن حدود للعقل من داخل العقل نفسه، فإننا نتكلم إذن عن المزيد من التقيُّد بالضوابط المعرفية. ولا نتكلم هُنا عن العقل كقوة مجردة، وإنما كمعرفة قائمة على أُسس من التفكير والتجربة المستمرة.
 

هُناك اتجاهات تروِّج لمحدودية هذا العقل معرفياً وكأنها انتصار لشيء ما غير العقل نفسه. ولكننا حين نقول إن المعرفة الإنسانية هي معرفة نسبية فهذا لا يعني أنها بلا أساس، أو أنها خاطئة لمجرد أنها معرفة إنسانية، وذلك لأن النسبية والخطأ هي مفاهيم تُوجد ضمن دائرة المعرفة الإنسانية نفسها، أي أننا عندما نقول خاطئ أو نسبي فإن ذلك يكون دائماً بالنسبة لمعرفة جديدة، وعلى أُسس معرفية جديدة.
 

إذن، الوعي بنسبية الحقيقة هو ليس وقوعاً في الشك واللا-أدرية بل هو انفتاح على معارف جديدة ممكنة. كما أن أي فكرة عن النسبية أو المحدودية أو اللايقين ليست بالضرورة شكّاً محضا. مثلا نظريات ميكانيكا الكم التي تضع حدودا لما يُمكن معرفته بالتجربة من الواقع، هي ليست مجرد شكوك، بل هي نظريات تدعمها أُسس. وكذلك نظرية مثل نظرية عدم الاكتمال لـ "كورت غودل" حول حدود البرهان داخل أنساق صورية معينة في الرياضيات هي ليست مجرد شكوك، بل تقوم على أسس برهانية منطقية، أي هي بحد ذاتها معرفة، وبالتالي فهي تؤكد على قوة البرهان في الوقت الذي تضع فيه حدودا للاتساق داخل أنساق صورية معينة.

نفس الأمر ينطبق على أي نقد للعقل ولحدود المعرفة الإنسانية، فإذا كان صحيحا -بالمعايير المعينة للعقل وللمعرفة- فإنه يكون فتحا جديدا، واستمرارا للمعرفة وليس تقويضا لها. أما النقد الذي يُقدم للعقل من منظور أخلاقي أو سياسي فهو ليس نقداً يتعلق بالمعرفة، بل باستخدامها وتطبيقاتها، أي هو نقدٌ للممارسة الإنسانية، ومجاله الأخلاق وهو مبحث آخر مختلف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.