شعار قسم مدونات

جنازة حقيقية.. لبطل وهمي

blogs - ما وراء الطبيعة
 
قبل بضعة أعوام، تناقلت صحف ومواقع إنترنت مصرية خبر إقامة عدد من المواطنين -معظمهم من الشباب- صوان عزاء لتقبل التعازي في وفاة العجوز الراحل "رفعت إسماعيل". إلى هنا كل شيء طبيعي وعادي، رجل طاعن في السن وافته المنية ومعارفه يتحسرون على رحيله، ويسهبون في ذكر فضائله ومناقبه، ويعتبرونه بطلا نادرا قل نظيره في عصرنا الحالي.
 

لكن المفاجأة هي أن العجوز الذي ذرف الكثيرون الدموع حزنا على وفاته، ليس بطلا من لحم ودم، بل من ورق! نعم! نتحدث هنا عن رفعت إسماعيل، طبيب أمراض الدم، البطل الرئيسي والشخصية المحورية في سلسلة "ما وراء الطبيعة" التي قدمها الدكتور والأديب المصري المعروف أحمد خالد توفيق لما يفوق العقدين من الزمن. ولكن، هل يمكن لجيل كامل من الشباب أن يقع في غرام شخصية خيالية بهذا الشكل؟ لنتعرف على أصل الحكاية إذن!
 

سنة 1993، وفي وقت كان فيه القراء الشباب مبهورين بسلاسل رجل المستحيل وملف المستقبل التي يقدمها الدكتور نبيل فاروق -الدكتور فلان والطبيب فلان، هي تلك العلاقة الغامضة والمبهمة بين الطب والأدب، وهذا موضوع آخر قد أتطرق له فيما بعد- وهي السلاسل المعتمدة على البطل الخارق والشهم المحب لوطنه والمدافع عن أرضه ضد كيد الأشرار، ظهر العدد الأول لسلسلة جديدة اسمها "ما وراء الطبيعة" صاحبها شاب نحيف يرتدي النظارات وتظهر على محياه ملامح الخجل، واسمه أحمد خالد توفيق، فيما حمل العدد عنوان : "مصاص الدماء وأسطورة الرجل الذئب".
 

لا يتمتع رفعت إسماعيل بجسد رياضي، كما أن سوء الحظ صفة ملازمة له، لكنه يواجهها دائما بسلاح السخرية التي كشفت لنا عن نوع من الكتابة يبرع فيها الأديب أحمد خالد توفيق إلى حد كبير: الكتابة الساخرة..

يتعلق الأمر بعجوز بدأت الأحداث وهو في السبعينات من عمره، ولد سنة 1924، تقاعد عن عمله في كلية الطب، وتفرغ ليحكي لنا قصصه وخبراته الطويلة مع عوالم ما وراء الطبيعة والتي امتدت من نهاية الخمسينيات إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، مع مصاصي الدماء والمذؤوبين والوحوش والمسوخ والشياطين وأصحاب الظواهر الخارقة، كما شاركنا تفريغا لحلقات برنامج إذاعي ساهم في تقديمه في السبعينيات واسمه "ما بعد منتصف الليل".
 

يمكن اعتبار رفعت إسماعيل واحدا من أفضل نماذج "نقيض البطل" في الأدب العربي الحديث، ما جعله محبوبا بين القراء، فهو لا يتمتع بجسد رياضي ملفت للنظر، وهو أبعد ما يكون عن الوسامة، كما أن سوء الحظ صفة ملازمة له، لكنه يواجهها دائما بسلاح السخرية اللاذعة التي كشفت لنا عن نوع من مختلف من الكتابة يبرع فيها الأديب أحمد خالد توفيق إلى حد كبير: الكتابة الساخرة..
 

يقول رفعت إسماعيل عن نفسه بأنه نحيل كقلم رصاص أو كمكنسة صلعاء، معتل الصحة بشكل واضح، يضيف في كل مرة مرضا جديدا إلى "ألبوم أمراضه" من وهن في القلب إلى ربو مزمن، مرورا بضيق في الشرايين التاجية وقرحة قوية. يدخن بشراهة، كبرلين عندما دخلها الحلفاء على حد وصفه، لكنه توقف عن ذكر الأمر في مراحل متقدمة من السلسلة بعدما شعر الكاتب بأن هذه الصفة قد تنتقل إلى جيل من المراهقين المعجبين بشخصية العجوز الفريد من نوعه.
 

رفعت إسماعيل شخص ملول جدا وعصبيته واضحة، كما أنه ثرثار يميل كثيرا إلى الحديث عن نفسه، حاول أن يقدم نفسه في البداية كهادم للأساطير والظواهر الخارقة، لكنه أقر بها وسلم بوجودها مع توالي أعداد السلسلة. يعيش رفعت في منزله لوحده، حبيبته الوحيدة تدعى ماجي ماكيلوب، أستاذة فيزياء اسكتلندية تعرف عليها حين كان يدرس الدكتوراه في جامعة داندي تحت إشراف والدها السير جيمس ماكيلوب. ورغم محاولاته المتكررة للزواج بها إلا أنها تفضل أن يبقيا بعيدين عن بعضهما لئلا يكتشفا عيوب بعضهما البعض رغم حبهما المتبادل على حد قولها.

مخطئ من يعتقد بأن "ما وراء الطبيعة" سلسلة رعب تقليدية تعتمد على إثارة الغرائز، بل بالعكس، فهي تقدم طبقا أدبيا شهيا يجمع بين الأسلوب المتفرد والتقنيات الروائية والتشويق الرائع والمعلومات المفيدة.

تدور أحداث السلسلة في مناطق متفرقة من العالم، انطلاقا من مصر طبعا، لتصل إلى رومانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وليبيا واليونان والصين والمكسيك وجامايكا وإسبانيا ومكان وهمي رغم أهميته المحورية في السلسلة واسمه "جانب النجوم"، وقد تحدث الكاتب أحمد خالد توفيق عن هذا الأمر وقال بأن بعض "النصب الأدبي" ضروري في الكتابة، فعدد كبير من القراء لم يصدقوا مثلا أنه لم يزر رومانيا قط، رغم أن عددا كبيرا من مغامرات السلسلة جرت أطوارها هناك!
 

مخطئ من يعتقد بأن "ما وراء الطبيعة" سلسلة رعب تقليدية تعتمد على إثارة الغرائز كما هو الشأن بالنسبة للأفلام المتخصصة في هذا الشأن، بل بالعكس، فهي تقدم طبقا أدبيا شهيا يجمع بين الأسلوب المتفرد والتقنيات الروائية الحديثة والتشويق الرائع والمعلومات المفيدة، ولم يكن مستغربا أن يساهم رفعت إسماعيل ومن خلفه الدكتور أحمد خالد توفيق في خلق جيل مثقف محب للقراءة ومندفع نحو عوالم السرد الإبداعي، جيل يعتبر أن العجوز الراحل هو والده الأدبي الروحي وأحد مفاتيح إصابته بداء الكتابة.
 

انتهت السلسلة سنة 2014 بوفاة رفعت إسماعيل "أو بمعنى آخر بعد نضوب أفكار الدكتور توفيق في هذا الجانب وإقراره بأن التطويل سيوقع القراء في فخ التكرار والنمطية والإملال وربما سيهشم صورة رفعت في أذهانهم" ليسدل بذلك الستار على واحدة من أغرب الشخصيات الأدبية الوهمية في العقدين الماضيين. أليس مفهوما إذن إقدام عدد من المعجبين على إقامة صوان عزاء لبطل وهمي يدعى رفعت إسماعيل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.