شعار قسم مدونات

المغايرة بين الطوْر والمرحلة.. عملية عقل مفتوح

blogs- التخطيط

استَرعى اهتِمامي خلال أكثر من عَقْدٍ من الزمن ظاهرةٌ اجتماعيةٌ إداريةٌ؛ فَحْواها خَلَلٌ واضِحٌ عند كثيرٍ من إدارِيّينا الكِرام في مستَوَيَي الإدارَةِ الوُسْطى والعُلْيا، في التَّفريقِ العِلْمِيّ والمُغايَرَةِ "Contrast" العَمَلِيَّة بين "الطَّوْر – Phase" و "المَرحَلَة – Stage". وهذا الخَلَلُ الأصوليُّ استَبانَ وظَهَرَ خلال الدَّورات والاستِشارات والمُقابَلات الإدارية؛ حيث لاحَظْنا أنَّ كثيرًا من القرارات الاستراتيجِيَّةِ والتَّكتيكِيَّةِ الخاطِئةِ في بيئات العمل المختلِفَة والمتنَوِّعَة نَشَأَت بسببِ هذا الخَلَل.

وفي المقابل، ما زِلْنا نَسمعُ ونَرى من يُكابِرُ في فَهْمِ وتَصَوُّرِ أنَّ الطَّوْرَ والمَرحَلَةَ شيئًا واحدًا! أو بوَصفِهِما مُجرَّد مُتَرادِفَيْن لَفْظِيَّيْن لمعنًى واحد! وبالتالي نَجِدُ من هؤلاء مَن يَلوذُ بقاعدَةِ: "لا مُشاحَّةَ في الاصْطِلاح"! أو قَوْلِ: "خَطأ مَشْهور، خيرٌ من صَحيحٍ مَهْجور".. إلخ من العِبارات الكاشِفَة عن حالَةِ التَّسْطيح! "نقيضِ التَّبْسيط!" الواقِعين في شَرَكِها.
 

الأطوارُ تسَلْسُلُها البَيْنيُّ اعتِمادِيٌّ Dependent، أما المراحِل فتسلسلها البَيْنيُّ استقلاليّ Independent فمثلاً؛ طَوْرُ صَبِّ الأساسِ مُعتَمِدٌ على طَوْرِ حَفْرِهِ.

ومن مَوقِعي الاجتماعيّ بوَصفي باحِثًا مُتَخَصِّصًا في عِلمِ إدارَةِ المشاريع أحَدِ "العُلومِ الاجتِماعِيَّة" Social Sciences أرى أنَّ هذا الخَلَل في السُّلوكِ القَوليِّ والعَمليِّ يستَدعي الرُّجوعَ إلى التَّصَوُّرِ المَبْنِيّ على الفَهْم، والذي بِدَورِهِ يُبنى على المعلومَةِ الحَقيقِيَّةِ: الثابِتَةِ شَرْعًا، أوِ الصَّريحَةِ عَقْلًا، أو السَّليمَةِ فِطْرةً. وعليه؛ اقتَضى الحالُ "عَمَلِيَّةَ عَقْلٍ مَفْتوحٍ" (Open-Mind Surgery) لهذا الفَهم، ومن ثم التَّصَوُّر الحاكِم على السُّلوك، من خلالِ تصحيحِ الخلل على أساسٍ من الصَّوابِ المؤسَّسِ على ما هو حقٌّ من قَولِ الخالِقِ عز وجل: "وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" نُوح:14.

اختصارًا؛ إنَّ مَدارَ وناظِمَ كلامِنا في الفَقْرات الثلاث أعلاه هو الكلمات المتَسَلْسِلَة الآتية: المعلوماتُ، تُفهَمُ، ومن ثمّ تُتَصَوَّرُ، ومن ثمّ تُسْلَكُ؛ قَولًا وعَمَلًا. والعكسُ صحيح؛ في التَّغييرِ وإعادَةِ الهندسَةِ والإصلاح.

دعونا نعقِد المغايَرَةَ العِلمِيَّةَ بالمعلوماتِ الحَقيقِيَّةِ الآتية:
أوَّلًا: الأطوارُ تسَلْسُلُها البَيْنيُّ اعتِمادِيٌّ Dependent، أما المراحِل فتسلسلها البَيْنيُّ استقلاليّ Independent فمثلاً؛ طَوْرُ صَبِّ الأساسِ مُعتَمِدٌ على طَوْرِ حَفْرِهِ.. أما مرحلةُ بناء كلية الهندسة في مشروعِ إنشاءِ جامِعَةٍ ما فمُستَقِلَّةٌ عن بناء كلية الطِبّ فيها.
 

ثانيًا: الأطوارُ تنْتَمي دَومًا إلى دورَةِ حياةٍ Lifecycle ما، أما المراحل فلا. فمثلًا؛ طَورُ تصميم "Design" قطارٍ كهربائيّ "Metro" ينتمي إلى دورة حياتِهِ المُبتَدِئَةِ بِطَورِ البَلْوَرَة "Conception" والمُنتَهِيَةِ بطَورِ الإخراجِ من الخدمة "Retirement"، أما مرحلَةُ بنائِهِ في مدينة ما فليست ضمن دورة الحياة.

ثالثًا: الإنهاءُ "Termination" في تَسَلْسُلِ الأطوارِ يُؤَدّي دَومًا إلى جهودٍ جَهيضَةٍ "Abortive Efforts" وتَكاليفَ مَعدومَةٍ "Sunk Costs"، أما جهودُ وتكاليفُ الإنهاءِ في المراحل فلا تكادُ تُذكَر. فمثلًا؛ إنهاءُ مشروعِ برنامجٍ تطبيقيٍّ "Software Application" في نِهايَةِ طَورِ تحليلِهِ بالضرورة سيجعل جهودَهُ وتكاليفَهُ غير قابلةٍ للاستِردادِ والتَّعويض، أما جهودُ وتكاليفُ إنهاء مَراحِلِ تَوَسُّعِهِ "Expansion" أو تَرقِيَتِهِ "Upgrade" فلا تكادُ تُذكَر.

حاجَتُنا إلى الأطوارِ تكونُ عادَةً في المستوى الدُّنيَوِيّ التفصيليّ، أما حاجَتُنا إلى المراحلِ فتكونُ في المستوى الكُلِّي الإجماليّ.

رابعًا: الأطوارُ مُكوِّناتٌ للمَراحِل، أما المَراحِل فتَتَضَمَّنُ الأطوار. فمثلًا؛ طَوْرَا تَقييم الاحتِياجات التَّدريبِيَّة وتَحليلِها (TNA) ضمنَ مشروعٍ تأهيليٍّ في منظّمةٍ ما يُعَدّان مكوّنات لمرحلةٍ من مراحلِ تأهيلِ موظّفيها؛ والعكس غير صحيح.

خامسًا: حاجَتُنا إلى الأطوارِ تكونُ عادَةً في المستوى الدُّنيَوِيّ التفصيليّ، أما حاجَتُنا إلى المراحلِ فتكونُ في المستوى الكُلِّي الإجماليّ. فمثلًا؛ أطوارُ بناءِ بُرجِ اتصالاتٍ مُنفَردٍ تُعَدُّ مُستوًى تَفصيليًّا في دورةِ حياةِ مشروعه، أما مراحلُ بناءِ مجاميعَ منها بحسَب المناطقِ أو المدُن فتُعَدُّ مراحلَ كُلِّيَّةً إجمالِيَّة. وأما كيف نُقارِنُ "Compare" ونَقْرِنُ "Couple" بينهما فهذا مَرهونٌ ابتداءً بأولويَّةِ العِلْم والفَهْم والتَّصَوُّر أنَّ ثَمَّة فرقًا صَحيحًا صَريحًا بين الطَّوْرِ والمَرحَلَة، ومن ثُمَّ حِكْمَةِ توظيفِهِ في مُواجَهَةِ الظَّرف، ومُعالَجَةِ تَعقيداتِهِ.. فكما قيل: "أرْسِلْ حَكِيمًا ولا تُوصِهِ".

بالمثالِ يَتَّضِحُ المَقال؛ إن كان اهتِمامُ وهَمُّ مُنَظَّمَتِكُم الكُلْفَةُ "Cost" في المقام الأوّل، كان اتِّباعُ استراتيجِيَّةَ "التَّطْوير" Phasing هو الأجدى.. أما إن كان تَخَوُّفُها وخَوْفُها المجازَفَةُ "Risk" الناشِئَة عن المجهولِ الغامِض والتقلُّبِ الجامِح فإنَّ اتباعَ استراتيجية "التَّمَرْحُل" Staging هو الأجدى.. وهكذا.

الخُلاصَةُ النّافِعَة؛ أنَّ قرارَكُم الإداريّ، أيها الأعِزّاء، باتِّباعِ استراتيجِيَّةِ "التَّطْوير" أو "التَّمَرحُل" في إدارة دَوراتِ حياةِ مشاريعَ ومُنْتَجات "وكذلك خَدَمات ونَتائِج" مُنَظَّماتِكُم يُعَدُّ قرارًا خافِضًا! رافِعًا!
وبناءً عليه؛ لا بُدَّ مِن أَخْذِ معالجَتِنا أعلاه في الحُسبان عند صُنعِ القرار.. أو اتخاذه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.