شعار قسم مدونات

بيت الهنا يا جدي

blogs- جدي
دلال الجد والجدة لن يذهب سدى، فهو محفور في قلوب الأحفاد، سيترحمون عليهم ألف مرة يوميا بعد رحيلهم، لن ينسوا مذاق الطعام الشهي الذي يطبخ خصيصا لهم، وتَكسّر القوانين والأنظمة لحظة دخولهم الباب، الشكولاتة اللذيذة، البسكويت والراحة، القبلات والأحضان، المداعبات وشعرات ذقن الجد الحادة وهي تنغرس بحنان على الخد وصرخاتنا: "ياجدو جرحتلي خدي" في بيت الجد كل شيء له طعم مختلف، العيد هو بيت جدي، وخروف العيد وعيدية العيد هم فرحتي، وقراص العيد من يدي جدتي مازال طعمها في فمي، ورائحتها تملأ أنفي وهي تحملنا حصص الجيران والمعارف، وصوتها في أذني: "اركضي وصلي القراصات قبل ما يبردن".
 

أذكر أنني شكوت والدي لجدي، كنت في مطلع المراهقة، لا أحتمل الأوامر والموانع، كنت أبكي بحرقة وأنا أهاتف جدي، دقائق وإذا هو في بيتنا، حضرت حقيبتي بأمر منه، أمسك بيدي، وقال لأبي أنني سأبقى عندهم للأبد. كنت أستمتع في كل لحظة أقضيها معهم، هناك حنان لا يوصف بالكلمات ولا ينتهي، هناك في بيت الجد تصقل الشخصيات وتتوازن الطفولة، كم كان جدي حنونا، لا أذكر أنني نمت في منزلهم إلا واستيقظت على صوته ينادي: "يلا عالفطور عملت لك بيض بعيون مقحمش"، والله لم أتذوق مثله في حياتي.
 

سأربي ابنتي مثل ما زرعت في أمي وعلمني أبي، على حب أجدادها، لتكبر وتنضج في عز حبهم، سأدعو الله مخلصة أن يمتع أجدادها بالصحة والسعادة، فلعلها تتعلم من حنانهم أن السعادة موجودة في بيوتنا.

الكعك مع الشاي مختلف في مطبخهم، وقلاية البندورة ولا أشهى، و جدتي خفيفة الظل رغم مرضها تحوم حوله لترتب لنا ما يسعدنا، تحبنا وتحب الحياة معنا، أذكر أنها لم تكن تضيع على نفسها حفل زفاف إلا وتحضره، وكأنه عرس لولدها، وفي الأحزان تتسابق مع نفسها وأمي وعماتي وزوجات أعمامي لصنع الطعام لأهل الميت، أو تقديم المساعدة ولو بالكلمة، وكم شهدت صالة الضيوف في بيتهم جاهة لبنت جيران أو عزاء لجار، منهم أخذنا اندفاعنا وحبنا للناس، منهم تعلمنا أن نحب الحياة "ما استطعنا لها سبيلا".
 

"كان جدي يملك سيارة صغيرة لكنها لو تكلمت لشهدت كم من الناس أسعدت"، وباب بيت جدي مفتوح دائما، لا أذكر أني رأيته مغلقا في أي وقت كان، كل من يعرفنا يعرف أن الباب مفتوح للجميع دوما، كنا إذا رأيناه مغلقا ونادرا ما يكون، نشعر بانقباض.

كان طعام جدتي اللذيذ جدا وبيتها العامر بالفرح والحيوية ملجأ لأصحاب أبي وأعمامي يوميا، فمنذ الصباح تبدأ بتحضير كميات من الطعام وهي تقول: "ما بتدري مين بفوت علينا يما".

كنت أظن في طفولتي أن جدي شيخ الحارة وأتباهى أمام الجيران بهذا، أذكر أن جدي كان يمسكني من يدي الصغيرة بيده الكبيرة، ويطرق باب بيت الجيران ويوبخهم إذا ما تعدى أحدهم عليَ ولو بكلمة، كانت أمي توبخني لأنني أنقل له ما يحدث في الحارة وتحذرني أنني لن أذهب عندهم مجددا إذا استمررت في الشكوى، آه لو تعرف أمي كمية السعادة والفخر التي كانت تغمرني ويده تمسك يدي وهو يدافع عني.
 

حارة بيت جدي وبيت جدي وكل ما يتعلق بجدي هنا في قلبي أحمله، دالية العنب وشجرة الليمون، الياسمينة ذات الرائحة النفاذة، أشعر أنني أستنشق عبقها الأن، صحون الطعام التي تنتقل من جارة إلى جارة، دكان الحارة، زجاجات البيبسي، ساندويشات الفلافل المقسومة نصفين أتشاركها مع أولاد أعمامي وعماتي، تجمعات يوم الجمعة، ورحلاتنا معا، كل هذا وأكثر تحمله ذكرياتي..
 

أغلق الباب يا جدي، لكن لم تغلق قلوبنا، حبكم فينا عامر، نترحم عليكم يوميا، فأنتم من علمنا أن بيت الجد هو الأمان والفرح والبساطة والسعادة، سأربي ابنتي مثل ما زرعت في أمي وعلمني أبي، على حب أجدادها، لتكبر وتنضج في عز حبهم، سأدعو الله مخلصة أن يمتع أجدادها بالصحة والسعادة، فلعلها تتعلم من حنانهم أن السعادة موجودة هنا في قلوبنا وبيوتنا فلا جدوى من البحث عنها بعيدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.