شعار قسم مدونات

"تجربة انفصال جنوب السودان" فاعتبروا يا أولي الأبصار

blogs- جنوب السودان
تجربة انفصال جنوب السودان تجربة مثيرة فهو الاستقلال الأكثر سلاسة في العالم الثالث والذي حظي باعتراف الدولة الأم مباشرة بعد إعلان الاستقلال، بل إن رئيس الدولة الأم عمر البشير ذهب بنفسه إلى عاصمة جنوب السودان وشاهد بأم عينيه علم دولة الجنوب يرتفع على سارية "القصر الرئاسي" ويتم إنزال علم السودان، ومثل هكذا استقلال لا يمنح في دول أخرى إلا بعد بحار من الدماء.
 

السودانيين كانوا قد شعروا باليأس من هذا الإقليم الذي يرى لنفسه هوية مختلفة عن باقي أقاليم الدولة السودانية، وكانوا قد سئموا الحرب الطوال مع الجنوب طوالي 50 عاماً في الغابات والتي أرهقت ميزانية دولتهم بـ 91 مليار دولار أمريكي كان بالإمكان أن تصرف في البناء والتنمية بدلا من أن تصرف في الحرب.
 

كانت فكرة انفصال أو استقلال جنوب السودان فكرة مرفوضة تماما طوال في العهود السودانية المختلفة، وجرب السودانيين مع الجنوب فكرة فرض الدولة الواحدة بالقوة "زمن عبود" وفشلت المحاولة وفكرة الحكم الذاتي "زمن نميري" وحتى فكرة الدولتين المنفصلتين "زمن البشير"، وها هي تعلن فشلها على الملأ بانفجار جنوب السودان وتشظيه بعد فترة وجيزة من "تحريره المزعوم" من العرب الجلابة.
 

الجنوبيون عادوا ليقاتلوا بعضهم وارتكبوا مذابح مروعة مع بعضهم وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، وطبعا لم يكن للشمال أي دور في حربهم الداخلية بل إن الشمال عانى منها بسبب تدفق موجات من اللاجئين على الحدود.

أبناء جنوب السودان لم يكونوا يجدون أنفسهم مع السودانيين أبدا بسبب أحقاد زرعها الاستعمار البريطاني ربطت بين الإسلام والعرب في الشمال وبين تجارة الرق والتي كانت سائدة في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، وكان أكبر زبائن الرقيق هم البريطانيون أنفسهم ومعهم الأوربيون الذين كانوا يستخدمون العبيد في مزارعهم في القارة الأمريكية.
 

البريطانيون فكروا جيداً قبل منح السودان نصفه الجنوبي فقد كان جنوب السودان في زمن الإنجليز منطقة مغلقة لا يدخلها أي سوداني من الشمال أو مسلم وحتى من يدخلها من المسلمين فإنهم كانوا يحرصون على أن يكون من غير المتدينين لدرجة أن سيد قطب يحكي في أحد كتبه قصة ذلك الموظف المصري الذي كان في جنوب السودان وتأخرت نقليته إلى القاهرة رغم مناشدة المسؤولين التسريع بها، فتفتق ذهنه لحيلة أن وقف في أحد أسواق جوبا وأذن لصلاة الظهر ثم جلس يصلي على مرأى ومسمع من الناس فأسرع البريطانيون بنقله في اليوم التالي، وكذلك القصص التي تتحدث عن كيفية منع الحكومة البريطانية من يرتدي الجلابية البيضاء والعمامة "الزي العربي" من دخول جنوب السودان وتجريم من يرتديهما من الجنوبيين.
 

المهم كان الإخوة في جنوب السودان مقتنعين أنهم مختلفين مع أهل الشمال في كل شيء وأنهم لن يقبلوا أن يكونوا في الشمال إلا أن يكونوا "حكاماً" فارضين هويتهم الثقافية الإفريقانية العلمانية على مجموع الشعب السوداني من بقية الأقاليم، وعندما فشل مشروعهم الذي سموه "السودان الجديد" قرروا أن يدشنوا مشروع الانفصال. ركز الانفصاليين على دعاية لخداع الشعب الجنوبي وهي أن النفط موجود في الجنوب فلماذا يقتسمه مع الشمال فليستمتع بالنفط مواطن الجنوب لوحده وليكن جنوب السودان "سويسرا إفريقيا".. إذا فقد كان مرتكزا الانفصال هما الاختلاف الثقافي والقومي أولا ثم رفض الشراكة في الثروات الطبيعية وهي النفط تحديداً مع الشمال.

منذ اليوم الأول للانفصال ظهر أن دولة الجنوب فيها رأسان: الأول يرغب في معاداة الدولة الأم "السودان" وهو الرئيس سلفاكير، والآخر يرغب في علاقات أخوية معها وهو نائب الرئيس رياك مشار. ولم تمر أشهر على الانفصال حتى افتعل سلفاكير حربا مع السودان بزعم أن حقل هجليج النفطي من المناطق المتنازع عليها -وهذا الأمر من الكذب الصراح- فقد حكمت محكمة العدل الدولية بشكل واضح أن هجليج لا تقع داخل إقليم أبيي وبالتالي فهو جزء لا يتجزأ من الدولة الأم، وبعد حرب موجعة هزم سلفاكير وطرد جيشه بالقوة المسلحة في 2012م بشكل مذل وأجبره المجتمع الدولي على تجميد طموحاته التوسعية في اتجاه الشمال.
 

لو تأملنا في حال الإنفصاليين في العالم العربي فسوف نجدهم يعتمدون في تأسيس خطابهم على نفس ما قاله قادة جنوب السودان لشعبهم عندما قادوه للخراب بالتصويت في الاستفتاء.

سلفاكير عندما منعته أمريكا من اللعب ضد الشمال بورقة الحدود اتجه للتفاوض والتهدئة مع السودان ثم إلى دعم الحركات المعارضة السودانية بالأموال والسلاح لإسقاط النظام وإحداث الفوضى في السودان، وأثناء ما كان سلفاكير غارقاً في نشوة الإستمتاع بعائدات النفط المليارية التي بدأت تتدفق على خزينة دولة الجنوب قرر ترشيح نفسه لرئاسة الجنوب لدورة جديدة وذلك عبر مؤتمر للحركة الشعبية "الحزب الحاكم" وهذا ما حمس نائبه رياك مشار للترشح ضده.
 

اعتبر سلفاكير رئيس دولة الجنوب ترشيح مشار كاعتداء شخصي عليه وخيانة فلم تمر أشهر حتى قام بإقالته من منصبه كنائب للرئيس بشكل مهين غير أن رياك مشار امتص الإهانة وبدأ في تجميع القوى المعارضة لسلفاكير من أجل الترشح ضده، ولكن سلفاكير لم يصبر فسرعان ما دبر "انقلابا وهميا" وزعم التصدي إليه وقال أن هذا الانقلاب يقف خلفه رياك مشار ليبدأ شلال الدماء بالتدفق مدراراً في الجنوب.
 

الجنوبيون عادوا ليقاتلوا بعضهم وارتكبوا مذابح مروعة مع بعضهم وجرائم يندى لها جبين الإنسانية، وطبعا لم يكن للشمال أي دور في حربهم الداخلية بل إن الشمال عانى منها بسبب تدفق موجات من اللاجئين على الحدود ما أجبر السلطات السودانية على بناء مخيمات للهاربين من جحيم الحرب وللعناية باللاجئين، وانتهى حلم دولة الجنوب بالشعب الجنوبي إلى كابوس مروع لا يعقل. كانت الدولة الوطنية السودانية أكثر رحمة بالجنوبيين من بعضهم البعض وكانت هي المانع الحقيقي للحرب الأهلية بين القبائل، وتتبين أن أكاذيب الاضطهاد العنصري والديني التي روجتها منظمات الإفك واليمين الغربي واللوبيات الإفريقانية في الحزب الديمقراطي الأمريكي كانت مجرد غطاء لتمويل هؤلاء القتلة الجشعين الذين لا يملكون أي ذرة من الرحمة تجاه من ينافسهم في السلطة.
 

توارت منظمات الإفك ودعاة "منهج التحليل الثقافي" ودعاة السودان الجديد خجلا مما تفعله هذه المليشيات الإرهابية المسمى بالجيش الشعبي في شعبها في جنوب السودان من قتل وحرق واغتصاب وبمشاركة فصائل المرتزقة من أوغندا وبعض ضعاف النفوس من السودان بدعم عسكري مصري وأوغندي، فقد سقط مشروع دولة الجنوب سقوط مروعا وهذا ما أجبر المجتمع الدولي والقوى الإقليمية ليضغطوا سلفاكير ليوقيع على اتفاق سلام في أغسطس 2015م تنص أبرز نقاطه على دمج المعارضة وحل المليشيات وإعادة مشار نائباً للرئيس.
 

غير أن المليشيات التي يديرها الرئيس الجنوبي كانت ساخطة على الاتفاق والذي أعاد حقوق القبائل في السلطة في دولة الجنوب وهم يريدونها لقبيلة "الدينكا" خالصة من دون الناس فافتعلوا حادثة يوليو 2016م ليدمروا اتفاقية السلام ويعيدوا إنتاج الحرب من جديد وليطلقوا أحد أسوأ موجات التطهير العرقي في تاريخ إفريقيا والتي لا تشبه في بشاعتها إلا مأساة رواندا، فقد قتلوا كل من ينتمي لقبيلة مشار في جوبا ومحيطها وبقروا بطون الحوامل واغتصبوا نساء النوير "قبيلة مشار" دون أن يستطيع سلفاكير السيطرة عليهم، بل إن سلفاكير أصبح خاضعا لمجلس حكماء قبيلة الدينكا وهو الذي يدفعه لاتخاذ القرارات الخاطئة والتربيت على كتف المليشيات.

بعد فوات الأوان عرف الجنوبيون أن التعدد الثقافي في الدولة الواحدة خير من الاستقلال في جمهورية ذات ثقافة واحدة معرضة للحرب الأهلية باستمرار، وأنه ليس بالثروات الطبيعية فقط تبنى الدول.
 

في اليمن بين الحراك الجنوبي يوجد تياران، التيار الأول يطالب بدولة اليمن الجنوبي كاملة والآخر يريد أن تتمتع حضرموت بحكم ذاتي لتستفيد من ثرواتها الطبيعية لوحدها دون مشاركة بقية اليمنيين.

لو تأملنا في حال الإنفصاليين في العالم العربي كبرلماني طبرق وأكراد شمال العراق وجماعة روج آفا شمال سوريا والبوليساريو في الصحراء وجماعة الحراك في جنوب اليمن فسوف نجدهم يعتمدون في تأسيس خطابهم على نفس ما قاله قادة جنوب السودان لشعبهم عندما قادوه للخراب بالتصويت في الاستفتاء، وهو الخطاب القائم على الاختلاف الثقافي والقومي والتغرير بالجماهير بالمن والسلوى والاستمتاع بالثروات الطبيعية كالنفط لوحدهم بدلا من أن يشاركهم فيها آخرون، وكأن هؤلاء القوم لا يريدون قراءة التاريخ ولا تجارب الانفصال في الدول الأخرى.
 

التناقضات الداخلية داخل هذه المجموعات الانفصالية تبشر أنهم ما إن يحصلوا على الاستقلال حتى يقاتلوا بعضهم مثلا في "كوردستان العراق"، الخلاف بين جماعة طالباني وبارزاني في شمال العراق قبل عام يشهد؛ فالبيشمرغة ليست موحدة بل بيشمرغتان مختلفتان واحدة طالبانية وأخرى بارزانية وفرصت الاشتباك بين هذه القوة واردة جدا وشاهدنا كيف أحرقت مقار حزب برزاني في السليمانية مثلا، وفي سوريا هناك خلاف بين الوحدات الكوردية وبيشمرغة روج آفا وتخوين يمكن أن يفضي للقتال.

وفي اليمن بين الحراك الجنوبي يوجد تياران: التيار الأول يطالب بدولة اليمن الجنوبي كاملة والآخر يريد أن تتمتع حضرموت بحكم ذاتي لتستفيد من ثرواتها الطبيعية لوحدها دون مشاركة بقية اليمنيين، وكذلك الحال لانفصالي طبرق الذين ينقسمون لتيار إسلامي متشدد يحرق الكتب والروايات وقشرة لبرالية تتكلم في ساحة البرلمان والانفجار بين متشددي طبرق وليبرالييها قريب كما يرى مراقبون.
 

ما أريد أن أقوله التقسيم ليس حلا فابحثوا عن حلول أخرى لتحقنوا دماء شعبكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.