شعار قسم مدونات

هل نحن مجرد سراب؟

blogs - human
(1)
من منا لا يعرف قوس قزح، ذلك الشكل الجميل الذي يظهر في السماء بعد هطول الأمطار في الأجواء المشمسة. تخبرنا الفيزياء أنه يحدث بسبب انكسار الضوء على قطرات الماء وتحلُّله إلى ألوان الطيف السبعة. السراب أيضاً، تلك الظاهرة التي أصبحت رمزاً في الثقافة العربية لكل ما هو وهم أو غير حقيقي، يحدث لأسباب مشابهة تتعلق بدرجة الحرارة وانعكاس الضوء.

وإذا لم يكن هُناك إنسان، فلن يكون هُناك قوس قزح ولا سراب. فهذه الظواهر هي ظواهر حسية، لا وجود لها في الواقع الموضوعي.

ولكن تفسير كيفية ظهور قوس قزح، لا ينفي وجوده كمعطى حسي، لا ينفي تجربة أننا نرى تلك الألوان الزاهية التي تزين السماء، وكذلك السراب فحتى ونحن نعرف أنه ليس بماء، إلا أن تجربة أننا نرى سراباً تبقى موجودة وحقيقية.

مشكلة المادية أنها تقرر منذ البداية أن لا شيء سوى المادة، ولذلك فمن الطبيعي أن تنتهي دائماً إلى نفس الفرضية الابتدائية "وماذا بعد المادة، سوى الوهم!

المعنى الذي أريد أن أخلص اليه هو أن التفسير لا ينفي وجود الظاهرة. فكوننا فسرنا ظاهرة ما بواسطة علاقات السببية لا يعني أن هذه الظاهرة ستختفي من الوجود بكل معانيه.

وعندما نفسر الوعي بأنه ظاهرة تحدث في الدماغ، فإن هذا التفسير لا يلغي وجود ظاهرة الوعي، كشيء متميّز ومختلف.

وإذا كانت ظاهرة قوس القزح هي معطى حسي يقوم العقل (أو الوعي) بتفسيرها، فإن المشكلة مع الوعي هي أنه هو في الوقت نفسه موضوع التفسير والمفسِّر، أي هو ليس ظاهرة مستقلة تبدو لنا من الخارج.

(2)
لا معنى لأن نقول إن الوعي هو مجرد سراب، أو مجرد قوس قزح جميل ولكنه غير واقعي لأن بإمكاننا تفسيره وفهمه كلياً على أنه مجرد نشاط للمادة/الدماغ.

وذلك لأن مفهومنا لما هو سراب أو وهم يستند إلى فرضية الواقع الموضوعي القائم بمعزل عن الإنسان، وهذه الفرضية لا يُمكن تطبيقها على الوعي، ولا يُمكننا أن نحكم على وجوده باللغة والمعايير نفسها التي نحكم بواسطها على وجود الأشياء الأخرى، لأن هذا يتنافى مع طبيعة وجوده.

فعندما نقول مثلاً إن السراب غير حقيقي، فنحن نشير إلى مكان ظهور السراب ونقول إنه لا يوجد هناك أي شيء يشبه الماء أو السراب. ولكن قضية وجود الوعي لا تعادل وجود ماء في مكان محدد أو وجود قوس بألوان زاهية في السماء، أي أن وجود الوعي ليس قضية "شيء يُوجد هُناك" حتى يتم نفيه بالقضية "لا شيء يُوجد هُناك".

الأمر هُنا يتعلق بمشكلة عدم التمييز بين أشكال الوجود المختلفة، فالسراب موجود على المستوى الحسي، كمعطى حسي، ولكنه غير موجود على المستوى الواقعي في الخارج. ولا يُمكننا أن نقول ذلك عن الوعي بنفس الطريقة، لأن الوعي يملك وجوداً واحداً هو وجوده كوعي.

وفي اللحظة التي نقرر فيها أن نحاكم وجوده بمعايير وجود الأشياء بمعزل عن الإنسان، نكون قد حكمنا عليه بالعدم مسبقا.

(3)
مشكلة المادية أنها تقرر منذ البداية أن لا شيء سوى المادة، ولذلك فمن الطبيعي أن تنتهي دائماً إلى نفس الفرضية الابتدائية "وماذا بعد المادة، سوى الوهم!".

ولكن وصف الوعي بالوهم ينطوي على تناقُض رهيب: هُناك شيء غير المادة، ولكن إذا أطلقنا عليه اسم "الوهم" لا يعود موجوداً! أي أن وصف الوعي بالوهم هو مجرد إخفاء للمشكلة خلف دخان أو ضبابية الكلمة.

في الواقع، مفهوم الوهم قد يُستخدم لنفي وجود الأشياء التي يُمكن أن "توجد هُناك"، أي الأشياء المادية التي تتحدد بالزمان والمكان بمعزل عن الوعي. أو لوصف الظواهر التي تفهم بشكل مغاير لطبيعتها الحقيقية، مثل ظاهرة الانكسار الضوئي، ولكن في هذه الحالة يكون هُناك واقع موضوعي نحدد بموجبه وإزاءه ما هو حقيقي وما هو وهم. هذا الأمر غير متحقق في حالة الوعي إذا نظرنا اليه كظاهرة. فهو ليس مثل ظاهرة الانكسار لان ظاهرة الوعي ليست موجودة خارج نطاق نفسها، أي هي ظاهرة مغلقة على نفسها، لا تحدث في العالم الخارجي بالنسبة إلى ذات ما.

ولذلك لا معنى لاستخدام كلمة "وهم" لوصف الوعي، لأن قضية وجوده لا تتعلق بالمكان أو الزمان، أي لا تتعلق بالوجود خارج الذهن والحس. وأيضاً لا تتعلق بالمقارنة بين الوعي كحقيقة موضوعية في مقابل الوعي كظاهرة تبدو لنا، لأن القضية في الأساس هي حول الوعي كظاهرة يُراد تفسيرها، ولا يُمكن لهذه الظاهرة أن تنقسم مرة أُخرى إلى "الوعي في ذاته" و"الوعي كظاهرة"، لأننا سلفاً بصدد مناقشة الوعي كشيء مغلق على نفسه، أي كظاهرة بالنسبة لنفسها وحسب.

(4)
إذا كان العالم الحسي كله هو عالم ظواهر كما يقول "كانط" في مقابل العالم "الحقيقي" المستحيل، وكانت هذه الظواهر تبدو لنا كما تبدو لأننا نملك وعياً يسمح بذلك، فما هو ذلك الشيء الآخر الذي نملكه والذي يسمح بوجود الوعي كظاهرة، (أو كوَهم كما يقول البعض).

فإذا كان السراب مثلاً هو ظاهرة توجد بالنسبة للإنسان بسبب الوعي، فبسبب ماذا يُوجد الوعي كظاهرة؟ أي لماذا هُناك وعي من الأساس.. لماذا هُناك دماغ ووعي، بدلاً من دماغ وحسب.. لماذا لسنا مجرد مادة، لماذا نفكِّر؟

إذا قُلنا إن الوجود الحقيقي للوعي (كنقيض أو كمقابل لوجود الوعي كظاهرة) ينتمي إلى الدماغ كواقع مادي، فإن الوعي كظاهرة لا ينتمي إلا إلى الوعي ذاته، أي ليس هُناك شيء آخر يمكن أن يسمح بوجود ظاهرة الوعي غير الوعي نفسه.

ففي حالة السراب كان السراب يوجد كظاهرة في الحس كوهم بصري، ولكن في الواقع هناك الضوء والحرارة أي الأسباب الموضوعية للظاهرة التي أثرت في الحس. وإذا طبقنا هذا الأمر في حالة الوعي، وقلنا إن الوعي في حقيقته الموضوعية هو نشاط الخلايا العصبية للدماغ، فإن ظاهرة الوعي لن توجد في الخلايا العصبية للدماغ (مثلما أن السراب لا يوجد في الواقع الموضوعي) وإنما توجد في ذاتها، أي توجد في الوعي نفسه، كظاهرة تنتمي إلى نفسها.

فإذا كان هذا الوعي الذي لا ينتمي كظاهرة إلا إلى نفسه، هو مجرد سراب، فهو سراب بالنسبة لمن، وبالنسبة لماذا؟ أي إذا كُنا نحن أنفسنا عبارة عن سراب، فنحن سراب بالنسبة لمن؟ وبالنسبة لماذا؟ أي ما هي الحقيقة الثابتة والواقع الموضوعي الذي نكون نحن سراباً فيه وبالنسبة له وإزاءه.

التفسير وإن كان لا يلغي وجود الظاهرة، إلا أنه يفعل شيئاً آخر أكثر خطراً من الإلغاء، وهو أنه يسلبها جوهريتها وأصالتها الأنطولوجية.

بعبارة أخرى، ما هي هذه الذات المتعالية التي تقف فوق الوعي وفوق الإنسان لترى أنه مجرد سراب بالنسبة لها. هذه الذات إن وجدت فلا يُمكن أن تكون ذاتاً إنسانية، وفي الواقع فإن الوعي كظاهرة يملك وجوداً أكثر أصالة من هذه الذات المتخيلة.

وحتى لو وجدت هذه الذات، فإنها لن تستطيع إقناع الوعي الإنساني بأنه لا يملك وجوداً حقيقياً وأنه مجرد وهم، والسبب واضح.

(4)
ولكن التفسير وإن كان لا يلغي وجود الظاهرة، إلا أنه يفعل شيئاً آخر أكثر خطراً من الإلغاء، وهو أنه يسلبها جوهريتها وأصالتها الأنطولوجية. وهذا هو المحك الحقيقي لمعضلة الوعي وعلاقته بالدماغ.

فبغض النظر عن الإشكاليات التي تثيرها إمكانية انبثاق الوعي من الخلايا العصبية للدماغ، أي إذا تجاهلنا كيف يحدث ذلك، وكيف يُمكن للدماغ أن ينتج وعياً، تلك الأسئلة التي يطرحها علم الأعصاب. فإن ربط الوعي بالدماغ يعني أن فناء الدماغ سيعني فناء الوعي، لأن الظاهرة تتبع علتها وجوداً وعدماً.

ومهما يكن مدى التجذُّر الأنطولوجي للوعي في الوجود أو هامشيته، فإن اللحظة الواعية، لحظة معانقة الوعي لذاته وللوجود، تبقى هي كل شيء، ولا قيمة لما عدا ذلك. إذ كيف تُوجد القيمة بمعزل عن الوعي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.