شعار قسم مدونات

اثنا عشر عامًا من العبودية

blogs - رجل مقيدة
تبدأ القصة كبداية أيّ شيء في الحياة، حيث الفطرة التي خلقها الله علينا، وزرع فينا من مقوماتها ما يُميزنا عن سائر مخلوقاته؛ ثم ما يلبث الإنسان أن يتدخل ليغير تلك الفطرة ويحاول بشتى الطرق أن يعبث بها وينزع ما يميزنا ويحولنا إلى حيوانات.
 
القصة لـ "سولمون نورثوب" يحكي فيها معاناته في العيش تحت أسر العبودية والأغلال لمدة 12 عامًا، لم يحكِ "سولمون" في قصته تلك مأساته فقط، وإنما ذكر معاناة كل العبيد الذين كانوا يبايعون ويشترون في زمنه، ثم تبدلت تلك العبودية إلى أشكال جديدة -في أزماننا- من الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، ربما كانت قصته معاناة شخص لكنها صلحت – أيضًا – لأن تكون قصة أمة وحكاية شعب، وجد نفسه حرًا مطمئنًا ليتدخل فاسدوه ويحولوا تلك الحرية إلى عبودية وإذلال.
 
أمريّكيٌ – عازف كمان – ذو بشرة سوداء يجوب البلاد بحثًا عن لقمة عيشٍ له ولأهله، يذهب في رحلة عمل قصيرة ليجد نفسه فجأةً عبدا بين جدران زنزانة ينتظر دوره ليشتريه أحد الأسياد، لم يكن يعلم وهو يغادر أهله أن لن يرحل عنهم فقط، وإنما يودع نفسه ويترك روحه ويستقبل إنسانًا جديدًا ليس له من "نورثوب" إلا ملامحه، هل تعرف هذا؟ هل تدرك معنى أن يُسلب المرءُ منّا حريته؟ أن يكون عبدًا لدى الآخرين، ألا يكون إنسانًا كامل الأهلية له اسم وبيت وقرار، هل تعرف ما معنى ألا تختار؟ أن يتحكم بك الآخرون وتكون كقطعة أثاث في بيتهم، أن يُنزع من داخلك كل ما يميزك كإنسان وتتحول مع الوقت إلى آلة في يد طاغٍ يستعملك، كانت تلك النوازع النفسية التي تملأ داخله وداخل أي إنسانٍ حكمت عليه الأقدار أن يُولد في دولة من دول العالم الثالث الآن!

هل فرقتنا الثورة مثلما فرقتنا العبودية؟ هل تشتتنا في بقاع الأرض بعد ثورة؟ لم يفُرق أمة من الأمم إلا عبودية أبنائها وتملق بعضهم لحكامها.

ورغم أن زمان القصة يختلف عن زماننا، ورغم انتهاء الرق إلا أن العبودية لم تنتهِ، وصلحت قوانين الرق أن تكون قوانين الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية في أزماننا، وفي هذا المقال نرصد بعضها:

1- إن أردت البقاء على قيد الحياة، افعل وتكلم بأقل ما تستطيع
كانت تلك أولى النصائح التي تلقاها "نورثوب" في حياته الجديدة كعبدٍ، وتلك – أيضًا- أولى النصائح التي تلقيناها ونتلقاها يوميًا بعد ما يُسمى بثورة الثلاثين من يونيو، ما زال الآباء يرغموننا ألا نتحدث، أن البقاء والنجاة عندما يكون الحديث بأقل ما تستطيع، ويكون عملك لأجل حياة روتينية خالصة لا رغبة في إصلاح ولا أملاً في تغيير. 

2- لا تخبر أحدًا أنك تستطيع أن تقرأ وتكتب، وإلا تكون زنجيّا في عداد الأموات
كما كان يخشى الأسياد إدراك العبيد بواقعهم، يخشى الطغاة إدراك المحكومين بحالهم، لذا يجتمع الإثنان في الخوف من العلم، إنهم يعرفون أثره ويدركون ما سيجلبه علم العبيد عليهم، إن الكلمة هي أخطر الأسلحة وأفضل المقاومة أن تكون مدركًا لما يجري حولك ونصف النصر أن تعرف عدوك أكثر مما تعرف نفسك، أن تعرف حقك، وأن تعرف إنسانيتك، لذا كان العبيد المتعلمين أول ما يُلقى بهم في نهرٍ، أو يذبحون بيد أسيادهم. 

3- أنا لا أريد النجاة، أريد أن أعيش
تحت ظل الأسياد وتحت حكم الطغاة يكون هناك فارق بين أن تحيا وأن تنجو، فالنجاة من أسهل ما يكون وتكلفتها رخيصة ليست أكثر من أن تدرك أنك عبدًا لا حق لك في الحياة، أن تعلم أنك لست أكثر من أداة، أما أن تحيا فتلك الكارثة، كيف تحيا وكل ما حولك مميت، وكيف تطلب الحياة ممن يطلبون لك الموت؟ وكلما طلبت الحرية أكثر كلما كان ثمنها أكبر، ولن تمثل لك النجاة واقعًا أفضل مما تخيله لو طالبت بحريتك، إن للعبودية مذاق سام والآلآم لم يقاسها إلا من عاشها، وطريقها طويل وشاق بينما الحرية طريقها قصير إما بالموت أو الفوز بها.

 
4- البقية هنا كلهم زنوج، وهم ولدوا وترعرعوا عبيدًا؛ لذا ليس لديهم القدرة على القتال
يرغب السادة دائمًا أن يزداد عبيدهم ويتكاثرون مثل الحيوانات، فهم بذلك يزيدون من ممتلكاته ويحاول السادة طريق استخدام أداتهم الإعلامية التي كانت تتمثل في مساعديهم، كانوا باستمرار يرددون للزنوج أنهم ما خلقوا إلا لأجل العبودية، وأنها طبيعة كونية يجب أن يسلموا بها، ومع تطور المساعديين ليكونوا إعلاميين بات الترديد بأن الأسياد هم الذين ضحوا ويضحون، ويحاولون بشتى الطرق أن يجعلوا من الاستبداد منطقًا ومن الظلم طبيعة كونية، ومن الطبقية المقيتة سنة من سنن الله… أتكفر بما أنزله الله؟

إننا نتملك التاريخ الشاهد على حريتنا، النابض بنضالنا وسعينا ضد الطغاة والمستبدين، وإن أتى منقذه وأخرجه فلسنا لنا منقذٌ إلا أنفسنا وإن تشتتنا فالعبودية تجمعنا!

5- قريبًا سوف تنسين أطفالك
العبودية ذلك الخط الذي يُفرق بين المرء وزوجه بين الأم وأبنائها، أن تُباع الأم لسيدٍ ويذهب الأبناء لآخر، ادعى البعض أن الثورات فوضى وخراب وأنها تفرق الوطن وتجلب الدمار له، هل فرقتنا الثورة مثلما فرقتنا العبودية؟ هل تشتتنا في بقاع الأرض بعد ثورة؟ لم يفُرق أمة من الأمم إلا عبودية أبنائها وتملق بعضهم لحكامها ووقوف الآخر صامدين في وجه استبدادهم. ولم تقم ثورة إلا بمشاركة المظلومين، إن الحرية هي نداء الفطرة وصوت الحق لذا تكون جامعة، أما العبودية فهي صوت الشذوذ والنفاق لذا تجلب على أي وطن تنزل عليه الخراب!

مع الوقت وتحت سطوة العبودية تجد نفسك كـ"نورثوب" تعتاد تلقائيًا على الظلم، تعتاد أن ترى الأبرياء يُعلقون على المشانق بدون أن تصرخ بكلمة، وتعتاد أن ترى اغتصاب النساء دون أن يكون لك صوت ولو حتى إنكارًا لما يحدث، العبودية تحولنا إلى حيوانات ليس لنا إلا الأكل والشراب وأكثر رفاهيتنا هي الشهوة.

وفي العبودية كلنا سواء حيث لا مهرب ولا مفر إلا معًا، لذا كان يحاول الأسياد بشتى الطرق أن يفرقوا بين عبيدهم، أن يجعل "نورثوب" أداة لضرب صديقته وأقرب الناس له، إنه يريد توريط أكبر عدد معه لكي لا يشعر بذنب أو تأنيب ضمير، حتى عندما كانوا يرقصون لم يرقصوا إلا بأمر سيدهم وطاعة لصاحب حق امتلاكهم، وقد يصل بنا الحال ونحن تحت أغلال الأسر أن نطلب الموت لكن ما الفرق بين أن نطلب الموت وأن نطلب الحرية؟

ربما جاءت النجاة لـ "نورثوب" وتمكن من إحضار أوراق تثبت كونه حُرًا بعد 12 عاما من العبودية، ولكننا لسنا مثله إننا لا نمتلك تلك الأوراق، وإنما نتملك التاريخ الشاهد على حريتنا، النابض بنضالنا وسعينا ضد الطغاة والمستبدين، وإن أتى منقذه وأخرجه فلسنا لنا منقذٌ إلا أنفسنا وإن تشتتنا فالعبودية تجمعنا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.