شعار قسم مدونات

ما بعد التفاهة!

blogs - human
لعله من التافه تماما ألا نتناول في نقاشاتنا التافهة موضوعا تافها يعالج تفاهة عصرنا، ففي كل يوم تطفو على سطح اهتماماتنا مساحات شاسعة من الزَبَـد تذهب بنا جُفَاء، فلا يمكث منا إلا جماجم فارغة عديمة النفع والفائدة، تستهلك رجيع الحضارات وسخيف التاريخ وشوارده، وتجعل من حَبَّات الأمور وسخافاتها قِبابا سامِقة تشرئب لها الأعناق وتتحرك لها الكاميرات والأقلام.

– إعلام تافه..
وإن المُتابع لوصلات إعلامنا بشتى أنواعه، ليدرك القدر الذي وصلت إليه التفاهة في مجتمعاتنا، مؤسسات إعلامية ضخمة ذات موارد عالية، وأرقام معاملات خيالية، تشتغل على بث التفاهة والترويج لها على أوسع نطاق، والطامة أنها تلقى إقبالا كبيرا ونسبا عالية من المشاهدات والمتابعات، تستتبعها نقاشات حامية الوطيس على مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، ما يدل على أن التفاهة أصبحت ثقافة عامة تُـوَجِّه وعينا الجماعي نحو مزيد من الانحطاط والانحدار، ما ساهم في تخرج نخبة تافهة تتصدر الحياة العامة، وتساهم في هدم قواعد الذوق السليم والتربية القيمية.

– كن تافها أو لا تكن!
كثير من الشباب المتعلم في مجتمعاتنا يجد نفسه بعد سنوات من الجد والتحصيل والمكابدة واقفا على قارعة الطريق يرقب المارة، أو جالسا في واجهة المقهى يحتسي مرارة حظه مع قهوته السوداء وجريدة صفراء يقلب إعلاناتها بحثا عن بصيص من الأمل في إعلان عن وظيفة بأي ثمن، وبنفس الجريدة يجد صورة لفلان التافه الذي لم يدخل المدرسة يوما إلا من نافذة محاربة الأمية، يجده مختالا في مقعده البرلماني الوتير وقد فتحت له أبواب الدنيا وصار من أهل الحل والعقد في البلد ..

تواطأ الكل على هدم التعليم، ونالت هراوات الحكومات ونعالها من المعلم نيلا عظيما، فالمعلم لم يعد القدوة والنموذج.

وحين يمل من الجريدة يفتح هاتفه الذكي، يعرج على اليوتيوب يرى وجه صديقه المهندس الذي تخرج معه في نفس العام، لقد صار مغنيا مشهورا بارعا في الضرب على الدف وتحريك الخصر، شغل الإعلام وأشعل مواقع التواصل الاجتماعي بجرأته الفجة وتفاهة ما يتلفظ به في أغانيه، وجنى من ذلك ثروة هائلة.

هنا يدرك المسكين أن الجد في أماكن اللهو والعبث باطل باطل بإلإجماع، وأن الوقت حان لهذا الخصر _ الذي ظل جاثما لسنوات فوق كراسي المدارس والجامعات والمقاهي _ أن يتحرك!

– كاد المعلم أن يكون..
تحضرني هنا مقولة شهيرة للمفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة رحمه الله: "إذا أردت أن تهدم مجتمعا اهدم التعليم، وإذا أردت أن تهدم التعليم فاهدم المعلم".

نعم؛ فقد تواطأ الكل على هدم التعليم، ونالت هراوات الحكومات ونعالها من المعلم نيلا عظيما، فالمعلم لم يعد القدوة والنموذج بل صار مهانا وقد فقد هيبته ومكانته فصار ملقنا ولم يعد مربيا، وقد أثخنوا رأسه بالبرامج والتعديلات، فمع كل موسم دراسي جديد مناهج جديدة تنقض ما كان قبلها، في استراتيجية ممنهجة مبنية على الهدم لا البناء، والنتيجة انهيار التعليم وانهيار أجيال كاملة أمام طوفان التفاهة الموجودة والوافدة، في عالم لم يعد يعترف بالحدود والمسافات. وبانهيار التعليم يسود الجهل وتنهار منظومة القيم فتعلو التفاهة، ويتصدر التافهون المشهد ..

وأختم تدوينتي هذه بما قاله الروائي ميلان كونديرا في روايته "حفلة التفاهة" :
"أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.