شعار قسم مدونات

الميزانيات السعودية.. قصة مأساة شعبية

Saudi minister of commerce Majid Al Qasabi, minister of finance Mohammed Al-Jadaan and energy minister Khalid al-Falih (L-R) attend the 2017 budget news conference in Riyadh, Saudi Arabia December 22, 2016. REUTERS/Faisal Al Nasser

لعنة الشفافية
مرت على المملكة العربية السعودية ميزانيات سنوية كان المواطن قبل إعلانها يرقى إلى السماء من فيض الأمل، ثم بعد انقضاء أول شهر من إعلانها يهوي المواطن إلى قاع خيبة الأمل ويدفن فيها حتى موعد الإعلان عن الميزانية التالية. وكل ميزانية تصدر هي ميزانية الشفافية والتنمية والعطاء، وكل ميزانية هي أفضل ميزانية تشهدها المملكة. ما يدل على واحد فقط من أمرين، إما أننا في تقدم مستمر، وإما أن الهراء لم ينقطع من أول ميزانية حتى اليوم.

والمشكلة في عبارة "شفافية" إنها كلمة تتطلب نظاما معلوماتيا عاما. ما يعني حق المواطنين في الوصول إلى حزمة المعلومات الأساسية التي بنيت عليها الميزانية من بيانات وزارة المالية، والإحصاء، ومراقبة المصروفات وميزانيات الوزارات والهيئات الحكومية وأوجه صرفها. لذلك فإن الحقيقة المفردة التي رافقت كل ميزانية هو غياب الشفافية عنها بل وغياب الأبعاد الأساسية الثلاثة لأي ميزانية قد تتصف بالشفافية وهي التخطيط، والتنفيذ، والرقابة. فلا يمكن لميزانية أن تكون شفافة في ظل نظام حكم خالٍ من الشفافية.

أهم ما ظهر في ميزانية السعودية 2017 هو ضعف الإنفاق الرأسمالي للدولة وهو ذلك الإنفاق في البنية التحتية والمستشفيات والمواصلات وغيره ما يؤثر مباشرة على حياة المواطن وتنميته.

أبواق وأبواق
أتفهم مخاوف الكثير من الوطنيين الأفاضل من تربص أعداء الوطن واستغلال السخط الشعبي في محاولة تأجيج الشارع وتحريضه. لذلك يبتعدون كثيرا عن النقد الداخلي والتفرغ في دفع المتربصين عن المساس بالوطن. ولكن في مجابهتهم الشجاعة هذه يرتكبون أفدح الأخطاء ولو بحسن نية. فالمواطن يشهد تناقضا بين ما يقولونه وبين الواقع الملموس في حياته، فإما أن يفقد الثقة فيهم، أو في نفسه، أو في الوطن كله.

طبعا لا يخلو مجتمع من طفيليين ومرتزقة ومنافقين كسحرة فرعون، يبهرون الناس ويقربونهم بمهاراتهم وعلمهم، وفي الحقيقة هم يستغلون قدراتهم، وثقة الناس بهم، فتزداد مكانتهم وقيمتهم الاجتماعية وحاجة السلطان لهم. وقد رأينا الكثير منهم قبل وبعد إصدار الميزانية الأخيرة للمملكة العربية السعودية. ولفرز المنافقين عن باقي النخبة لا نحتاج سوى العودة إلى تصريحاتهم المتناسقة عن الميزانية السابقة وسوف نجد أن التصريحات متشابهة في المحتوى، ميزانية 2016 كانت ميزانية الشفافية وميزانية التفاؤل، وبعد مرور عام ميزانية 2017 هي ميزانية الشفافية وميزانية التفاؤل، وسيستمر هذا التفاؤل حتى ميزانية 2018 سواء حققت استدامة تنموية أم لا.
 

العجز بين المواطن والدولة
يتحمل المواطن في سبيل الوطن أضعاف ما يتحمله المسؤول في سبيل الوطن. ففي سبيل تنمية الوطن تنمية مستدامة بمشاريع تنموية تدعم الاقتصاد وتوسع من مساحة الحرية الاقتصادية والإبداعية للمواطن، يتحمل أي عبء مالي جراء العجز في الميزانية. ولكن حينما يكون هذا العبء الذي يثقل كاهل المواطن دون غيره من أصحاب القرار، هو بسبب ظروف اقتصادية أو سوء إدارة مالية للدولة، يتساءل حينها أين ذهب فائض الميزانيات السابقة؟ ولماذا يتحمل المواطن أخطاء المسؤولين الإدارية بينما تستمر حياة الرفاهية للقيادة والمسؤولين دون أدنى تغيير؟ وكيف تعالج القيادة أخطاءها الإدارية بزيادة نسبة الدين العام وإصدار الصكوك رغم أن للدولة وسائل لترشيد الإنفاق متاحة مثل خفض مخصصات الأسر، تقليص نفقات المراسم الملكية، ووضع آليات أكثر دقة في تحديد أوجه الدعم الخارجي للدول.

ما ينتظره المواطن من الميزانية ليست أرقاما بالناقص أو الزائد. وليس إنجازات خفض الإنفاق أو إنجازات تمويل العجز فهذه كلها شؤون الدولة، فتخفيض الإنفاق يوفر للدولة، وتمويل العجز يحسن من أداء الدولة المالي، وانعكاساتها على حياة المواطن نسبية وبسيطة. إلى جانب أن خفض الإنفاق ليس إنجازا في حد ذاته كما أن العجز في الميزانية ليس كارثة في حد ذاته.

أنفق رئيس الوزراء الكندي المنتخب في أول شهر من تولي حزبه للحكم 7.5 مليار دولار فائض الميزانية السابقة التي خلفها المحافظون، هذا بالإضافة إلى 5 مليارات أخرى حملت عجزا في الميزانية العامة للدولة. ورغم الهجوم الذي لاقاه من حزب المعارضة في البرلمان إلا أنه قدم في المقابل برامج تنموية للشباب والأطفال والأسر المحتاجة ذات أهداف محددة ومؤشرات دقيقة لا تقوم فقط بتوزيع دعم مادي على المواطنين لتخفيف حدة إخفاقات الدولة المالية، ولكن تسمح للمجتمع والمواطن من تحسين أوضاعهم المالية من خلال التدريب المهني ودعم المشاريع الصغيرة. الهدف منها أنه بينما تتحمل الحكومة عجزا في الميزانية يجد المواطن وسائل التوسع في العيش مفتوحة أمامه.
 

ينصب جل اهتمام المواطن حين ينتظر إعلان الميزانية فيما تحمله هذه الميزانية من وعود وأهداف تنعكس على حياته ومعيشته.

إنجازات بلا تنمية
ولعل أهم ما ظهر في ميزانية السعودية 2017 هو ضعف الإنفاق الرأسمالي للدولة وهو ذلك الإنفاق في البنية التحتية والمستشفيات والمواصلات وغيره ما يؤثر مباشرة على حياة المواطن وتنميته. فنجد أن النفقات التشغيلية للدولة انخفضت في ميزانية 2016 بنسبة 4% فقط في مقابل انخفاض النفقات الرأسمالية 27.9%. وفي ميزانية 2017 استمر تخفيض النفقات الرأسمالية بشكل أكبر حتى 37.5% بينما لم تنخفض النفقات التشغيلية في 2017 سوى 7.56%. ويأتي التناقض في هذا الخصوص عندما يصرح وزير معاتبا أن استهلاك المواطن من الطاقة هو خمسة أضعاف المعدل العالمي، محملا المواطن مسؤولية هذا التبذير وهذه الرفاهية المفرطة، متناسيا أن استمرار الحكومة في إهمال البنية التحتية، خصوصا وسائل المواصلات العامة والتي لم تعد دولة في العالم نامية كانت أو متقدمة تخلوا منها، فرضت على المواطن هذه المعدلات الاستهلاكية العالية، فكانت اضطرارا وليست رفاهية كما يدعي الوزير.
 

رجاء مواطن
في الأخير أود التوجه إلى الحكومة برجاء مواطن. إن التضخم التاريخي في الإنفاق الحكومي هو في الأول والأخير جراء سياسات إدارية لا علاقة للمواطن في عملية إقرارها من عدمه. بل ينصب جل اهتمام المواطن حين ينتظر إعلان الميزانية فيما تحمله هذه الميزانية من وعود وأهداف تنعكس على حياته ومعيشته. فعندما توفر الدولة مليارات من رفع الرسوم لتمويل نفسها، يتساءل المواطن كيف يقوم هو بتمويل هذه الزيادة في نفقات المعيشة وما هي إجراءات الحكومة لتمكينه من ذلك؟ وخصوصا أن هذه الرسوم وارتفاع أسعار الطاقة سوف تنعكس على نفقات المعيشة بشكل لن يتمكن حساب المواطن من تغطيته.

لذلك إن رأت الدولة بحكمتها وجوب الترشيد في الإنفاق وزيادة وارداتها، أن تشرح للمواطن كيف لهذه الإجراءات أن تسمح له بتحسين وضعه الحالي أو المستقبلي، وكم وظيفة سوف توفر، وكم مشروع صغير أو متوسط سوف تدعم، وما هي عوائد هذه الإجراءات على الحركة الاقتصادية والتنمية المستدامة في الوطن. وإن أرادت الدولة تنمية حقيقية، عليها أن تنظر إلى المواطن كمصدر للتنمية وليس مصدراً للدخل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.