شعار قسم مدونات

هل الإرادة العامة إرادة المجموع؟ (1)

blogs- الإرادة
كثيراً ما يُعزى تأثير قرارٍ ما أو حدثٍ بعينه في المجتمع إلى "الإرادة العامة" التي يعلق الحكام آمالهم على التأثير فيها وتعديل وجهتها بأقصى ما يستطيعون. غالباً ما يُستخدم مصطلح "الإرادة العامة" للإشارة إلى العنصر الرابع والأهم "الجماهير" في معادلة السلطة، والذين يتوقف على مسلكهم بقاء السلطة من زوالها وأضحى واضحاً في هذه النقطة قدرة وتأثير الجماهير حديثاً عقب ما يُعرف بـ "الربيع العربى". بعد الثورتين الأمريكية والفرنسية بات جلياً أن سلطة الجماهير قوة لا يُستهان بها في تغيير نصاب المجتمع وتعديل موازين القوى فيه، ومن هنا انطلق العلماء والساسة لتقييم مدى وقوة الجماهير على السواء.
 

قسَّم جوستاف لوبون عالم الاجتماع الفرنسي الشهير القوى المشكّلة للإرادة العامة إلى صنفين: الأول يضم العناصر غير المتجانسة كأفراد الشارع العاديين وأعضاء المجالس النيابية والجمعيات الأهلية "منظمات المجتمع المدني" والعناصر المتجانسة من عينة أبناء الطبقة الاجتماعية الواحدة والزُمر "أو التنظيمات والطوائف" الدينية، والعسكرية، والنقابات العمالية والأحلاف الاجتماعية والسياسية المختلفة ذات الأجندة الموحدة والهدف العام الواحد.
 

في الدول النامية تسقط الإرادة العامة فريسة سهلة للتلاعب والتغييب في أكثر الحالات ذيوعاً إلا أن هناك استثناءات كموقف الإرادة العامة المصرية وحالة الرفض الشعبي لمسألة التفريط في جزيرتي تيران وصنافير.

وتُعد الإرادة العامة بمثابة تمثيل شامل لإرادة هؤلاء تفرض رؤيتهم لحل مشكلة مجتمعية أو حادثة سياسية فيما يعرض لهم.. فهل تعرض هذه الإرادة كافة آراء هؤلاء بالتمثيل الأضمن والطريق الأصح بشكل لا يتم التلاعب فيه؟
 

بالنسبة للعناصر غير المتجانسة فإنها لا تتحرك من تلقاء نفسها بل لزم أن تتعرض لمنبهات ورسائل إعلامية معينة تستثير حفيظتها أو تدفعها لاتخاذ موقف بعينه ولا يكون ذلك بغير قادة الرأي الذين ينوبون عن الجماهير في التفكير في الأمور وينبرون لتحليلها ثم يقدمون إليهم الصيغ النهائية من الأمور تحت بند "هاك الأمر كله ألا تظنه من الأصلح أن تفعل كذا؟" حتى وإن لم يُصرح بالأمر عياناً إلا أن الإعلام دوماً يفرض أجندته، وإن مجرد الحديث عن حياديته لهو محض خُرافة.
 

وبالتالي فإن هذه العناصر غير المتجانسة هي إرادة عامة موجهة، يسوقها أصحاب المصالح والأنظمة الحاكمة كيفما شاءوا، يُرتبون أولوياتها وينظمون أنماط أبنائها السلوكية كلما مال النصاب المجتمعي نحو التخلّف وانتُزِعت النزعة الفردية من البشر، أي أنه بات الفرد لا يفكر بنفسه ولا لها، بل انخرط في "القطيع" الأعظم الذي ذابت شخصيته فيه وانطلق لا يلوي على شيء سوى الالتزام بخط السرب ومنهاجه.
 

أما بالنسبة للعناصر المتجانسة فإنها تضم دوائر أصحاب المصالح من الزُمر العسكرية، والطوائف الدينية والنقابات والجمعيات التي يطرح أعضاؤها جانباً مصالحهم الشخصية بعض الشيء لتحقيق مصلحة المجموعة الصغيرة التي يندرج في سلكها، وعليه فإنه لا يسمع ولا يستقى من منابع خارجية ويكتفي في الأغلب بما يتلقمه داخل أسوار مجموعته.
 

من الذائع -خاصة في الدول المتقدمة- أن تسعى الإرادة العامة نحو مصلحة المجموع ومن المفروض أيضاً أن تتشكل بناءً على المزيج بين خبرات الأفراد التراكمية "الناتجة عن أفكارهم المستقلة وتعليمهم ومواقفهم الحياتية وسلوكياتهم المختلفة" وبين الهدف العام الذى يلتفون حوله وهنا تتحصن هذه الإرادة بوعي أفرادها وعلو مستواهم الإدراكي فلا تنحرف بسهولة عن سواء السبيل.
 

على النقيض في الدول النامية تسقط الإرادة العامة فريسة سهلة للتلاعب والتغييب في أكثر الحالات ذيوعاً إلا أن هناك استثناءات كموقف الإرادة العامة المصرية وحالة الرفض الشعبي لمسألة التفريط في جزيرتي تيران وصنافير.
 

الاختلاف معناه أن يتم تقبل الآخر وتمثيله بشكل عادل يعبر من خلاله عن رأيه وبفتح باب الحوار المجتمعي حيث يجلس الجميع باختلاف خلفياتهم على مائدة بنيّة السعي لمصلحة عامة مشتركة.

وبوجه عام فإن انقسام المجتمع لشيع وأطياف معتزلة "أقليات" -بغض النظر عن نوعها- ذات نزعة انفصالية تنزوي في أركانٍ كالـ (Ghetto) يضر بالإرادة العامة مثلما تضر بها الوحشة والاغتراب، ففي الأولى كما قال جان جاك روسو فيلسوف الثورة الفرنسية ومُنظرها الأول في العقد الاجتماعي: "قيام لعصبات إذا ما تألفت جمعياتٌ جزئية على الجمعية الكبرى، فإن كل واحدة من هذه الجمعيات تصبح عامة بالنسبة إلى أعضائها وبذا لا يوجد مصوتين بمقدار الناس وتكمن المعضلة بعد ذلك في استفراد واحدة منها بالنصيب الأعظم الذى معه تفوق الأخريات فيصبح الاختلاف وحيداً وهنا لا تكون هناك إرادة عامة بل ولا يكون هناك رأي غالب غير الرأي الخاص".
 

وهذا بالضبط ما يكون عليه الحال في الدول الشمولية ذات الحزب الواحد والاتجاه الواحد، أما الوحشة والاغتراب فإنهما تُخلفان أفراداً مُغرقين في الأنانية، لا يعبؤون بانتماء ولا بدور مجتمعي يكتفون باعتزال الصف الأكبر ويقطعون سائر ما يربطهم به وهنا فقط تنكمش الهويات، وتهترئ الثقافات وتسقط محروقة بلهيب التغريب فلا تراهم يشاركون أفراد المجتمع همومهم ولا أفراحهم ولا هم حتى يقفوا متفرجين!!
 

لذا ينبغي على المجتمع أن يترك سياسات التفريق وأن يلفظ إجراءات التهميش ويكتم أصواته فلا يوجد خلاص له سوى في احتضان المختلفين فيما بينهم المجمعين على هدف مؤداه تقدم المجتمع ورفعة لواءه بين قرنائه على الساحة الدولية. الاختلاف هنا معناه أن يتم تقبل الآخر وتمثيله بشكل عادل يعبر من خلاله عن رأيه وبفتح باب الحوار المجتمعي دون إذكاء لعصبيات أو تحيز لجماعات حيث يجلس الجميع باختلاف خلفياتهم على مائدة بنيّة السعي لمصلحة عامة مشتركة يفيد منها الجميع ومن هنا فقط تصبح الإرادة العامة إرادة عارفة.. إرادة واعية.. إرادة الكل التي تضمن حق الكل.
 

مما تقدم ثَبُتَ لنا أن الإرادة العامة خيرة ولكنها سهل توجيهها وتحريفها عن وجهتها خصوصاً في الديكتاتوريات، لذا فإن التوعية الفردية فريضة وتنمية الذات سنة واجبة بإجماع لا حِول عنه ولا تبديل فيه حتى يتسنى لنا بعد خلق شرائح مجتمعية واعية، إيجاد إرادة عامة فاعلة منزهة عن الاتجاهات والأجندات لا ينتهج أفرادها غير ما يصب في الصالح العام ولا يسعون إلا لما فيه تحقيق للخير الكامل الأتم.
يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.