شعار قسم مدونات

بين الابتعاد عن الإسلام وسوء فهمه

blogs- غرناطة

الدين مثل الدواء إن لم تحسن استخدامه سيتحول لسم فاتك لا يبقي ولا يذر، ولذا ظل دوما مطلوبا وجود من يرافقون التدين وممارسة الدين وهم من يسمون في عرفنا العلماء، كي يلعبوا دور الأطباء الذين يحرصون على تبيين المقادير وكيفية الاستخدام، لكن الدين وبعيدا عن حقيقته وجوهره ومقاصده لم يتوقف يوما عن التشكل بطبائع البشر والتلون بألوانهم ولم يتوقف توظيفه في الأغراض السياسية والاجتماعية، فيتطرف بتطرفهم ويترفق بترفقهم، ويتحضر بتحضرهم، خاصة بتحول هؤلاء العلماء لحراس لشكل من الدين لا يمت للأصل بصلة كما يمت للظروف السياسية التي صنعته وشكلته.

ولا ينكر إنسان عادل دور الإسلام في نبوغ حضارة المسلمين وهيمنتهم على العالم لثمانية قرون متتالية، كما لا ينكر عاقل أيضا دور المسيحية في تخلف الأوروبيين إبان العصور الوسطى، لكن هل كان هذا لطبيعة الدين أم لطريقة تطبيق الدين؟؟ وهل بقي المسلمون متقدمين رغم بقاء الإسلام بينهم؟؟ وهل بقي الأوربيون متخلفين بعد استبعاد المسيحية؟؟
 

لا شك في أن الأندلس مثلت زهرة الحضارة الإسلامية وكانت موئلا لكثير من نبوغهم الفكري والفني والتقني، وعرفت ظهور أسماء عظيمة ساهمت مباشرة في تشييد معالم البناء الإسلامي، لكن هذا الدور لم يكن محتكرا عليها.

المتابع للشأن الحضاري الإسلامي سيقف على منحنى تصاعدي ينتهي تماما بسقوط الأندلس ويأخذ في التراجع حتى يومنا هذا!! فهل أدى فقدان الأندلس لهذا السقوط الرهيب؟؟

لا شك في أن الأندلس مثلت زهرة الحضارة الإسلامية وكانت موئلا لكثير من نبوغهم الفكري والفني والتقني، وعرفت ظهور أسماء عظيمة ساهمت مباشرة في تشييد معالم البناء الإسلامي، لكن هذا الدور لم يكن محتكرا عليها، فبلاد الإسلام من بخارى وتاج محل مرورا ببغداد ودمشق والقاهرة وبلاد المغرب كلها عرفت علماء وتقنيين ومفكرين كبار.

وأخذا بكلام ابن خلدون عن تأثير المناخ في التفكير ودور أرض وطقس الأندلس في بلوغ العقل الإسلامي قمة إبداعه، فإنه حتى قبل سقوط الأندلس كان المسلمون يتقدمون في شرق أوروبا وحتى أبواب فيينا، فلماذا لم ينتج نفس المناخ والأرض إبداعا آخر؟؟ إن سقوط الأندلس لم يكن سببا بل كان النتيجة المباشرة لتخلف المسلمين، وتضافرت عوامل أخرى عديدة للانحطاط، يمكن أن نركز على البعض منها على سبيل الذكر لا الحصر.

أولا: وقوع الإسلام تحت طائلة مذهبين متصارعين كلاهما يعادي العقل ويصادمه ويزدري العلوم والفكر، الصوفية بشكلها المنحرف الموغل في الخرافة، والحنبلية الجامدة التي تقدس الاتباع وكلام الرجال حتى لو خالف صلب القرآن والسنة، صراع تجسد مثالا في دولتي المرابطين والموحدين، وفي أتباع أبو حامد الغزالي وابن تيمية، وانتهى أخيرا بانتصار كبير وساحق للصوفية، لتعم بقاع العالم الإسلامي، ويسدل ستار كثيف من الجهل لمدة قرون عديدة.

ثانيا: ظهور الخلافة العثمانية وبسطها نفوذها على كامل العالم العربي والإسلامي، ورغم ما يحمد لها من الحفاظ على بيضة الإسلام والمسلمين، فقد لعبت طبيعة هذه الدولة المبنية على القوى العسكرية دورا كبيرا في تراجع الحياة العلمية والثقافية، وتشبه فترة الدولة العثمانية كثيرا من حيث الشكل الفترة الرومانية في التاريخ الأوروبي والتي تميزت بكونها فترة قوة عسكرية مهيبة، لكنها شهدت خفوتا وضمورا ثقافيا وعلميا إذا قورنت بما كان في عهد الإغريق السابقِين، فالحال كذلك للعهد العثماني والذي لم يعرف نبوغا إسلاميا خارج العسكرية وصناعة السفن والمدافع.

ثالثا: تراجع اللغة العربية عن دائرة الاستخدام الرسمي من قبل الدولة، وهي التي مثلت وعاء حضاريا لمدة سبعة قرون امتزجت فيه العديد من الثقافات والأجناس والشعوب، وتعاونت جميعا لتنتج أفكارا وعلوما موظفة فيها هذه اللغة الراقية التي ساهمت بشكل وافر في بلورة الأفكار وسهولة انتقالها وفهمها، وعموم استخدام اللهجات الشعوبية، وليس هذا تقليلا من قيمة أي لهجة أو لغة أخرى لكن الخطأ كان في غياب اللغة الجامعة الموحدة.

رابعا: تراجع العلم والعلوم ومكانتها ودورها في الحياة الاجتماعية، فالمسلمون الذين كانوا يحرصون على متابعة باهتمام بالغ الخلاف الفكري بين المعتزلة وجماعة الأثر وبين الأشاعرة والحنابلة في المساجد، لم يعد بإمكانهم حتى فهم أصل الخلاف ذلك ولا ما أنتجه المسلمون الأوائل من فكر وعلم. 

ومنذ هذه الفترة بات التفكير مرادفا للزندقة والخروج عن الملة، بل إن الاهتمام بأي علم "غير شريف" (وهو كل ما يقع خارج دائرة العلوم الدينية التقليدية من تفسير وحديث وفقه) أصبح من قبيل الشطط والزيغ وتضييع الوقت فيما لا طائل منه، وطغت لوازم التصوف وتفسيراته للظواهر والحوادث والأشياء.
 

كان ابن خلدون هو آخر سمة بارزة وعلامة فارقة اختتمت عصور الإشعاع الإسلامي، وبموته أسدل الستار على عقول المسلمين وانخرطوا في سبات عميق لسبعة قرون قادمة.

تراجع الطب والفلك والفلسفة والفيزياء لصالح تفسيرات وأجوبة ميتافيزقية لا علاقة لها بالواقع ولا بالدين، وبحث عن جواب لكل شيء في التراث الذي منه الغث ومنه السمين، وأضحت الأمة التي أوجدت الطب والمستشفيات والكشف العيادي واكتشفت الدورة الدموية الصغرى، وأوجدت أول كتاب في الطب تحت مسمى "القانون" الذي له ما له من دلالات عن تكون الأمراض وطرق شفاءها، أضحت هاته الأمة تكتفي بالتداوي والشفاء على يد شيخ أو درويش يتمتم ببضع كلمات وطلاسم!!

كان ابن خلدون هو آخر سمة بارزة وعلامة فارقة اختتمت عصور الإشعاع الإسلامي، وبموته أسدل الستار على عقول المسلمين وانخرطوا في سبات عميق لسبعة قرون قادمة، بقي خلالها كتابه المؤسس لعلم الاجتماع الحديث والحاوي قواعد دراسة علم التاريخ على أصولها، مردوما في رفوف خزنة من خزائن عائلة مغربية توارثتها من دون معرفة ما تحويه من كنوز، مثلها مثل كتاب ابن نفيس عن الدورة الدموية، حتى جاء اهتمام الغرب بالعلوم العربية والاستشراق فنفض الغبار عنها وأخرجت للعالم، كتحف نادرة تشهد بعظمة فترة وأمة.

ويبدو أن ابن خلدون تنبأ بمسار العرب القادم، إنها العودة للبداوة الأولى التي تراجعت تحت إشعاع الحضارة الإسلامية التي بزغت وانتشرت إبان عصور تقدمهم وتطورهم، كانت تلك البداوة تطل برأسها من جديد وتوجه ضربات متتالية لكل ما حققوه وتعصف بتراثهم وعلومهم وتحضرهم على وقع تراجع تأثير عواصم العالم العربي الكبرى من بغداد وحتى فاس.

لقد رافق الجمود العربي الإسلامي خلال هذه الفترة غرور شديد ونوع من الاعتقاد بنهاية التاريخ وتفوق لا ينتهي على دول الكفر، وبدل مواصلة طريق العلم والإبداع والإنتاج، التفت العرب للمفاخرة بأمجاد من مضوا والمفاخرة بكونهم أمة الدين الصحيح التي لن تهزم ولا تؤتى، وأفرغ الإسلام من مضمونه الحيوي الذي يحتفي بالحياة ويؤصل للعدل والحرية والعمل والتضحية، وأفرغت العبادات من روحها ومقاصدها وباتت طقوسا أقرب إلى الوثنية منها للإسلام، لأنها تمارس من غير فهم ولا إدراك بأهدافها ومشروعيتها.

ومثل ذلك أضحى القرآن، الكتاب الذي يحمل بين طياته خيرا كثيرا وحكما عظيمة وجاء ليكون منهاج حياة، ينتقل في صدور الحفاظ من دون أن يتغلغل في أرواحهم ولا يصل لفهومهم، بل بات سلعة يشترى به الثمن القليل، لا يتعدى دوره مرافقة الموتى وتشييعهم لمثواهم الدنيوي الأخير، أو يكتب في تميمة تعلق على الصدور لحفظ صاحبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.