شعار قسم مدونات

غرنيكا.. سنديانة الأمل

blogs - غرنيكا
الجو السائد في أيامنا هذه هو القنوط العام وانقطاع الأمل من رحمة الله، والحالة العامة للشعوب العربية والإسلامية تعزز هذا الشعور بعد كل ما حدث ويحدث، لكن الرجوع قليلا في التاريخ يوضح أن مثل هذه الأحداث قد وقعت وتكررت مرات عديدة وكانت النتيجة في النهاية انتصارا للحق والخير، مع أنه من الصعب القول أين هي النهاية، فدورة الصراع لم تتوقف يوما.

في سنة 1937 كانت الحرب الأهلية قائمة في إسبانيا، كان طرفاها الحركة القومية الفاشية يقودها الجنرال الإسباني فرانسيسكو فرانكو يدعمه في حربه ألمانيا النازية وإيطاليا، في الجهة المقابلة كان الثوار الإسبان التابعون للحكومة الجمهورية الإسبانية يدعمهم الشيوعيون في الاتحاد السوفياتي. كان فرانكو بحاجة ماسة لاجتياح ما تبقى من إقليم الباسك في شمال إسبانيا الذي كان تحت قبضة الجمهوريين، لذا أتى بفكرة ستصير دليلا يتبعه الطغاة من بعده.

طلب من حلفائه الألمان قصف مدينة غرنيكا – إحدى مدن إقليم الباسك في شمال إسبانيا – بالطائرات ومحوها من الوجود، ولسنا بحاجة لتوضيح مدى إتقان الألمان لعملهم سواء كان خيرا أو شرا، ففي 26 أفريل 1937 قام الألمان بهجوم ضخم على المدينة الصغيرة بقنابل الثرمايت الحارقة وجعلوها جحيما من لهب، حيث أسقطوا على المدينة الصغيرة 3431 طنا من القنابل في مدة أربع ساعات فقط. هذا القصف الوحشي كان سابقة في التاريخ العسكري، حيث لم يسبق أن استخدمت الطائرات الحربية من قبل بهذا العنف لاستهداف موقع يعج بالمدنيين، رغم أن فرانكو والألمان المساندين له ينفون هذه التهم ويقولون إن الهدف كان تدمير المصانع العسكرية التي كانت تحتضنها المدينة.

مدينة غرنيكا الجميلة تعتبر اليوم قطبا ثقافيا مهما يفتخر أبناؤه بالإرث الذي تحمله، وشجرة السنديان التي تعتبر رمز الحرية عند الباسكيين لم تستطع طائرات النازيين إسقاطها إذ لا تزال واقفة بشموخ.

هذه الأهوال والمآسي ألهمت فنانين عدة لرسم لوحات وصنع منحوتات تصور مقدار الدمار والوحشية التي تسبب بها القصف الجوي، ومن بين أشهر هذه الأعمال الفنية لوحة "غرنيكا" للرسام القدير بابلو بيكاسو التي توجد نسخة مكبرة منها على أحد جدران مبنى الأمم المتحدة.
تكملة القصة أن فرانكو انتصر في الحرب.. وحكم إسبانيا بالحديد والنار حتى سنة 1975 واضطهد معارضيه واستمتع الى أقصى حد بسلطة الحكم وجبروته حتى إنه قام بوضع صورته على العملة، بل وعندما مات تم الاحتفاء به ودفنه في ضريح عظيم رغم كل ما فعله.

الآن يمكن بسهولة إيجاد أمثلة مشابهة في عالمنا العربي لحكام مجانين اضطهدوا شعوبهم واستعملوا الطائرات الأجنبية في قصفهم وأحرقوهم وسجنوهم وعذبوهم وشردوهم في أصقاع العالم لكن.. هل انتهت قصة إسبانيا عند فرانكو؟

لا طبعا! فقد أصبحت إسبانيا بعدها بلدا يتمتع أبناؤه بالحرية والازدهار بعد نضال عظيم من أبنائها، وهذا دليل على أن انتصار الظلام ليست نهاية القصة، هؤلاء الحكام المجانين لا يتعلمون دروس التاريخ لكن ليس علينا أن نكون أغبياء مثلهم. ليس مغزى الكلام أن الخروج إلى نور الحرية يأتي بحلول خارقة تسقط من السماء فجأة، ولا دعوة للاعتقاد أن مسيرة النضال الإنساني ممكن أن تحقق مطالبها في بضع سنين، لكنها دليل تاريخي على أن الانتصار ممكن رغم كل الأثمان الباهظة التي يجب دفعها. هناك مقولة لا أعرف صاحبها تقول: التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الإنسان دائما يكرر حماقاته.

مدينة غرنيكا الجميلة تعتبر اليوم قطبا ثقافيا مهما يفتخر أبناؤه بالإرث الذي تحمله، وشجرة السنديان التي تعتبر رمز الحرية عند الباسكيين لم تستطع طائرات النازيين إسقاطها إذ لا تزال واقفة بشموخ في إحدى ساحاتها، وسكانها الذين عرفوا معنى الرعب القادم من السماء لطالما نظموا تظاهرات وتحركات ضد استخدام القصف الجوي ضد المدن الآهلة بالسكان كما فعلوا في 2003 ضد الحرب في العراق، وأيضا وقفوا تضامنا مع مدينة حلب التي كانت تتعرض لحملات قصف همجي شرس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.