شعار قسم مدونات

عن العلاقات التركية الإيرانية

blogs - turkey
اتسمت العلاقات بين الفرس والترك عبر التاريخ بكونها علاقات صراع، إلا أن هذه العلاقات نحت منحى تعاونيًا بعد أفول الإمبراطورية العثمانية التي ظلت خطرًا يحدق بالفرس قرونًا عديدة، فمع قيام الجمهورية التركية، شهدت العلاقات التركية الإيرانية تطورًا مستمرًا وتعاونًا غير مسبوق، على كافة الصعد والمستويات، ويمكن إرجاع هذا التطور إلى عدة عوامل، أهمها انتهاء عهد الإمبراطورية التي عدها الإيرانيون خطرًا تاريخيًا عليهم عدة قرون، وإعجاب شاه إيران "رضا بهلوي" بنهج "مصطفى كمال" بالتحول نحو العلمانية واللحاق بالركب الغربي بمسمى التحديث، وشعور الجانبين بالخطر الذي شكله الاتحاد السوفييتي على كليهما، فكانت مسألة الأمن حاضرةً بقوة في تشكيل العلاقات التركية الإيرانية.

اتضح ذلك من خلال انخراط الجانبين التركي والإيراني في تحالفات وتكتلات إقليمية ذات طابع عسكري في المقام الأول، فقد انضمت كل من تركيا وإيران إلى حلف "سعد أباد" ثم حلف بغداد، وكذلك منظمة الميثاق المركزي (CENTO) وفي الجانب الاقتصادي ساهم الجانبان في تأسيس منظمة التعاون الإقليمي للتنمية(RCD) عام 1964 وقد وصلت العلاقات التركية الإيرانية إلى ذروتها في الفترة الواقعة ما بين العامين 1953 و 1979 فشهدت هذه الفترة مزيدًا من التعاون بين الجانبين في المجالات الاقتصادية، والاستخباراتية، والعسكرية.


 زخم هذه العلاقات تراجع كثيرًا إبان قيام الثورة الإيرانية عام 1979 وتوج هذا التراجع بانهيار منظمة الميثاق المركزي، ومع اشتعال الحرب العراقية الإيرانية عام 1981 عاد الزخم للعلاقات مجددًا وشكلت تركيا متنفسًا لتسويق المنتجات الإيرانية خاصة في ظل وجود الحصار العربي الغربي عليها، ومع نهاية الحرب عام 1988 فترت هذه العلاقة نتيجة لتضافر جملة من الأسباب، من بينها تراجع أهمية تركيا بالنسبة لإيران، مع توقف الحرب وانحسار الحصار العربي وتطور العلاقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل وهو ما اعتبرته إيران تهديدًا لأمنها القومي، إلى جانب متابعة تركيا لشؤون الأقلية التركية ( الأذرية ) في إيران وهو ما اعتبرته إيران تدخلًا في شؤونها الداخلية.


مع أن حزب العدالة والتنمية محسوب على التيار السياسي الإسلامي، إلا أنه ينطلق في سياسته الخارجية من منطلقات براغماتية محضة، فإيران تشكل بالنسبة لتركيا معبرًا يربطها بجنوب آسيا ووسطها.

عاد التنافس التركي الإيراني في القوقاز، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، واستقلال كثير من الجمهوريات التي كانت تابعة له والتي ترتبط بعلاقات تاريخية وثقافية مع كل من تركيا وإيران، شهدت العلاقات التركية الإيرانية بعض التحسن مع تشكيل حزب الرفاه بزعامة "نجم الدين أربكان" لحكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم عام 1995 والذي وقع مع الجانب الإيراني اتفاقًا لتزويد تركيا بالنفط والغاز، إلا أن هذا الاتفاق لم ينفذ بضغط من المؤسسة العسكرية والقوى العلمانية، بذريعة أن هذا الاتفاق لا يخدم المصالح التركية، وفي أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع عام 1997 في تركيا وأسفر عن إسقاط الحكومة الائتلافية، وحل حزب الرفاه، توترت العلاقات التركية الإيرانية نتيجة اتهامات وجهتها بعض الأوساط التركية للحكومة الإيرانية، منها دعم حزب الرفاه لتمكينه من تشكيل حكومة إسلامية على غرار النموذج الإيراني، و دعم حزب العمال الكردستاني التركي، وإدخال عناصر من فيلق القدس الإيراني إلى الأراضي التركية لدعم الحركات الإسلامية المتطرفة وزعزعة الأمن في تركيا.


ساهمت الظروف الدولية السائدة بعد أحداث أيلول سبتمبر 2001 في تحسن العلاقات التركية الإيرانية، ومن بين تلك الظروف الانفتاح الكبير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على أكراد العراق لضمان مساندتهم لأي عمل عسكري أمريكي محتمل ضد العراق في ذلك الحين، وهذا الأمر أثار حساسية الجانب التركي نتيجة المخاوف من قيام دولة كردية شمال العراق، مما دفع الأتراك للتقدم باتجاه إيران التي لها حساسية مشابهة إزاء هذه المسألة، وترتب على ذلك شيء من التنسيق العسكري بين الجانبين التركي والإيراني حيال تصاعد عمليات الحركات الكردية الانفصالية ضد البلدين انطلاقًا من شمال العراق، ووصل الأمر إلى تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة ضد الأكراد، ومما ساعد في هذا التحسن صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة بعد فوزه في الانتخابات عام 2002 وتشكيله للحكومة التركية.

مع أن حزب العدالة والتنمية محسوب على التيار السياسي الإسلامي، إلا أنه ينطلق في سياسته الخارجية مع من منطلقات براغماتية محضة، فإيران تشكل بالنسبة لتركيا معبرًا يربطها بجنوب آسيا ووسطها، ومصدرا لتأمين جزء من مصادر الطاقة التي تحتاجها تركيا، ويضاف إلى ذلك الحاجة للتعاون الأمني المتصل بالمسألة الكردية، أما منطلقات الجانب الإيراني في سياسته تجاه تركيا، فتتلخص بكون تركيا تشكل بالنسبة لإيران البوابة التي تربطها بالغرب، كما أن تركيا شريك تجاري مهم بالنسبة لإيران، ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح إيران بسبب ارتفاع فاتورة الطاقة، بالإضافة للتوافق التركي الإيراني على ضرورة المحافظة على وحدة الأراضي العراقية وضرورة تسريع انسحاب القوات الأمريكية والغربية منه، إبان الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 .


يضاف إلى ذلك الارتياح الإيراني لمنع تركيا للقوات الأمريكية من استخدام أراضيها في ضرب العراق عام 2003 وكذلك الارتياح للمواقف التركية أثناء حرب لبنان عام 2006 وحرب غزة عام 2008 وحادثة منتدى دافوس عام 2009 وقد تبنت تركيا موقفًا متوازنًا حيال الملف النووي الإيراني، فبالرغم من عدم قبول تركيا بتحول إيران إلى قوة نووية في المنطقة نظرًا لما يترتب على ذلك من إقحام للإقليم برمته في أتون سباق التسلح، إلا أنها ترى أنه من حق إيران استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.


ومع كل التفاعلات الإيجابية بين تركيا وإيران إلا أن هنالك قضايا قد يكون لها انعكاسات سلبية على العلاقات بينهما، من بينها التخوف التركي من وجود جانب عسكري للبرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي يشكل خطرًا كبيرًا على التوازن الإقليمي وانزعاج الإيرانيين من تزايد الحضور التركي في آسيا الوسطى، بالإضافة إلى كل من جورجيا وأذربيجان، وتباين مصالح الطرفين في العراق، إلى جانب الاستياء الإيراني من قبول تركيا بنصب صواريخ الدرع الصاروخي الغربي على أراضيها، وهو ما يمثل تهديدا للأمن القومي من وجهة النظر الإيرانية.


لم يكن التحسن النسبي في العلاقات التركية الإيرانية في أعقاب تحسن العلاقات الروسية التركية إلا في إطار خشية إيران من أن يُقلص التقارب التركي الروسي من دورها في سوريا.

في اليمن وقفت تركيا إلى جانب الشرعية ممثلة في نظام " عبد المنصور هادي" في حين قامت إيران بدعم انقلاب الحوثيين وأمدتهم بالأسلحة والذخائر، إضافة إلي الخلاف العميق بشأن الثورة السورية، فإيران وقفت إلى جانب النظام السوري، وشاركت إلى جانبه عسكريًا، مما حال دون سقوطه، في حين وقفت تركيا إلى جانب المعارضة السورية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد الخلاف إلى رؤية الطرفين لحل الازمة السورية، فتركيا ترغب برحيل نظام الأسد، في حين ترغب إيران بتفكيك المعارضة وإنهاء دورها والالتفاف على مطالبها، وقد انعكس هذا التبيان خلال جولات المباحثات في "أستانة" عاصمة كازاخستان.

لم يكن التحسن النسبي في العلاقات التركية الإيرانية في أعقاب تحسن العلاقات الروسية التركية إلا في إطار خشية إيران من أن يُقلص التقارب التركي الروسي من دورها في سوريا، ومما أثار الحنق الإيراني على تركيا مجددًا، جولات الرئيس التركي في دول الخليج، والتي قد تنعكس على الحضور الإيراني في الملفات الإقليمية، ومع جود هذه الخلافات التي يعتبر بعضها عميقا إلا أنه توجد مجالات كبيرة للتعاون بين البلدين وهي كفيلة بإبعاد البلدين عن الصدام، والمواجهة في المدى المنظور على الأقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.