شعار قسم مدونات

أين تذهب أحلام الماضي؟!

blogs - راية استسلام
(1)
هل تصدق لم يبق في نفسي ضغينة على بني العباس، أعني لم أعد أنقم عليهم لأنهم طلبوا الملك، ولا لأنهم استعملوا من أجله كل تلك الوسائل، ولكن لأنهم غلبوا، وغُلبنا، طلبوا الملك كما طلبه آبائي، وغلبنا أول الأمر وكما غلبنا غُلبنا، فما الفرق؟ هكذا استنطق العبقري وليد سيف عبد الرحمن بن معاوية في آخر مشهد له في مسلسله الماتع صقر قريش، بعد رحلة طويلة كان الكره لبني العباس هو وقوده كي ينشئ هذا الملك فى الأندلس ويجدد دولة بني أمية في المغرب كما كانت في المشرق، يأتي ليخبرنا هذه الحقيقة نهاية المطاف!

(2)
أين تذهب أحلام الماضي؟ هكذا سألنا أنس، لم تكن هناك إجابة واضحة، صديقي يريد أن يقول من وراء حجاب بأننا كبرنا، وأن أحلامنا لم تكبر معنا، بل على الأحرى ضاعت منا، أحلامنا تلك التي شيدناها في عشرينيات عمرنا، عزم وفتوة وحركة وحماسة تبني صروحا عريضة من المجد والسؤدد في قابل الأيام، أو ترسم أثرا عظيما بالغ الاتساع والازدياد، أو تبشر بقوة ضاربة تمكن للمشاريع والأفكار التي لا تسعها مفكراتنا الصغيرة.

ليس هذا فحسب، بل أيضا نظرة استخفاف بأي مصير غير هذا، أيعقل أن أكون بعد عشر سنوات موظفا في شركة أوقع انصرافا في آخر ساعة بالعمل وأتأبط حبة بطيخ كبيرة وأنا عائد للبيت بعد نهار طويل، ألا يحسن كل هؤلاء العجزة سوى الفشل الذي يحاولون أن يورثونا إياه، مجبنة عند الإقدام تورث ضياع الفرص، واندفاع محمود نحو الخطر يوردنا المهالك، سنكون أكثر حكمة في ذلك اليوم البعيد.

أين ذهبت أحلام الماضي؟ ربما مر عقد من الزمان عليها الآن، لكن كثير مما بنيناه أصبح للموج لعبة على مر الأيام فلا يُرى منه الآن إلا طلل على طلل، فهل فشلنا؟

سأتحدث عن السلام، أعرف أن هذا ما لا تريديون سماعه، لكن هذه الحرب لا يمكن أن نفوز فيها، لقد سجنت سبعة وعشرين عاما، والآن أنا أخبركم أنني قادر على مسامحة من سجنوني.

(3)
الأفكار تتغير، هكذا قال لنا مصعب، هل شاهدتما فيلم "Long Walk to Freedom"، العمل مأخوذ من السيرة الذاية التي كتبها نيسلون مانديلا عن نفسه، من الميلاد والنشأة مرورا بالتمرد والكفاح المسلح فالسجن المؤبد، إلى الزعامة ثم رئاسة جنوب أفريقيا. 
 

كانت الشوارع غاضبة للغاية، قتل المئات من السود في حوادث عنف على يد قوات الشرطة، سيدة فقدت ابنها أعطت لمانديلا ورقة كتبت فيها "لا تتحدث عن السلام، أرجوك لا تتحدث عن السلام"، قرأ الرجل الذي جاوز السبعين رسالتها أمام التلفاز في الخطاب الذي ينتظره الجميع بعد هذه الحادثة ثم قال: سأتحدث عن السلام، أعرف أن هذا ما لا تريديون سماعه، لكن هذه الحرب لا يمكن أن نفوز فيها، لقد سجنت سبعة وعشرين عاما، والآن أنا أخبركم أنني قادر على مسامحة من سجنوني أنتم أيضا تستطيعون مسامحتهم، لا يمكننا الفوز فى الحرب، لكن يمكننا الفوز في الانتخابات.

(4)
أين تذهب أفكار الماضي؟ ربما هذا هو السؤال الأوقع، فأحلام الماضي بنيناها على عالم من الأفكار ظننا ساعتها أنه مخلدٌ، لكن رويدا رويدا بدأت هذه الأفكار تتحلل خيوطها المنسوخة أمام أعيننا، سواء أكانت هذه الأفكار غايات وأهدافا كبرى، أم مجرد وسائل وطرق صغيرة.

كبرنا وعاينا الكثير حولنا يغير الراية والطرق تماما، يخفض واحدة ويرفع أخرى ويمضي من طريق غير الذي اختطه قبل أعوام، أو حتى يخفض راية ولا يرفع أخرى ويظل عالقا حيران لا يهتدي سبيلا، في كل مرة تقع راية بجانبنا نتوقف أحيانا ونسأل، هل طريقنا مسدود فعلا، هل هؤلاء متساقطون أم نحن هائمون، وكلما بُدلت الرايات ابتدرنا أحيانا باللعن، وأحيانا بالاستهزاء، وأحيانا بالصمت خوفا أن نبدل نحن أيضا يوما ما. 

كبرنا وتعاقبنا على كثير من الطرقات للغاية الواحدة، في كل مرة نقول هذا طريقنا هكذا أنفع، وعندما يأفل، نعود أدراجنا ونقول: لا نحب الآفلين، أو يهيم بعضنا الآخر في ذات الطريق يداوم الطرق ويمني نفسه بالظًفر، فلا نعرف هل ختم على أبصارنا فلا نرى ما يرونه، أم أنجانا الله من سبيل موصود وفتح لنا بابا آخر نكمل به الرحلة.
 

نيلسون مانديلا الذي وصل بعد 27 عاما من السجن إلى أن السلام هو الحل، نقطتان في بحر عدد هائل من البشر تغيرت أفكارهم من النقيض إلى النقيض، ولكن ربما لم تتغير غاياتهم كثيرا.

(5)
أما أنا فتغيرت كثيرا، هكذا قلت، لا أعرف أين ذهبت أحلام الماضي أو أفكاره، بنيت أحلاما أخرى بأفكار جديدة، ولا أعلم هل أستبدلها مرة أخرى أم لا، ربما ستستبدل أيضا يوما ما، لكني على كل حال لم أندد كثيرا على أحلام الماضى، ولو عدت لما بنيت أحلام الحاضر.

"الجنون في الشباب هو شرط الحكمة في الكبر" هكذا قال علي عزت بيجوفتش، شبيه مانديلا في ملامح القصة والتحولات التي جعلته في النهاية رجلا يوقع مفاوضات على طاولة الأمم المتحدة، وهو الإسلامي والمفكر والثائر والسياسي البارز أيضا.

ربما هذا ما كنت عليه قبل عقد من الزمان، مس من الجنون يجعل الفتى يقيّم حركة التاريخ الإسلامي ويحاكم قادة الفكر والرأي والسياسة قبل أن يختبر شيئا من هذا، يحلل سقوط المؤسسات والمشاريع بل ربما الدول، وهو يدير فريقا لا يتجاوز العشرين شخصا، يخوض في الحب والنكاح والعلاقات الاجتماعية وهو لم يصب بعد من ذلك وطرا، يسب السلطة والمتسلطين وهو بعد لم يعرف عمن يسبهم شيئا.

توقف جل هذا، لم أندم على ما كان معي يوما ما، ولا أحزن على أنه زال مني اليوم، تكشفت الأشياء كثيرا من حولنا، لم نجدها كما كانت من بعيد، ركضنا كثيرا وعندنا وصلنا وجدنا السراب، لكن عظمنا قد قوي فأصبحنا قادرين على العدو أكثر إذا أبصرنا يوما الماء حقيقة.

(6)
عبد الرحمن الداخل الذي اكتشف أنه لم يعد ينقم على بني العباس قتله أهله، أو نيلسون مانديلا الذي وصل بعد 27 عاما من السجن إلى أن السلام هو الحل، نقطتان في بحر عدد هائل من البشر تغيرت أفكارهم من النقيض إلى النقيض، ولكن ربما لم تتغير غاياتهم كثيرا، ليس المهم هنا أن تتغير الأفكار، ولا أن تتغير الأحلام حتى، ما علينا أن نقلق من أجله هو سؤال وحيد إذا وجِد: أين يذهب سعي الماضي وهممنا في تحقيق ما نريد؟ 

فكم من غاية كبرى طاردها صاحبها بالليل والنهار حتى إذا حازها وجد أنه خسر أمامها ما هو أعظم، وكم من غاية مُستصغرة تتكشف لصاحبها على حين غرة فتملأ عليه حياته ويقيم فيها راضيا مرضيا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.