شعار قسم مدونات

كيف تحوّل الرُعب من الأتراك.. إلى "موضة"!

blogs - مظاهر عثمانية

يبدو أن القلق الذي نراه هذه الأيام من الأتراك في ألمانيا ليس وليد اللحظة، ولم ينجم عن تدفق العُمال الأتراك إلى هذه البلاد بعد الحرب في ستينيّات القرن الماضي، بل يعود إلى أيام حصار "فيينا" وأيام السلطان سليمان القانوني حين كانت أوروبا تعيش الرُعب من التوسّعات العثمانية، وهو ما يُسميه الألمان بـالخطر التُركي (Türkengefahr) في كُتبهم، ويوظّفه بعضهم في تبرير الحملات الإعلامية التي تُشن على تُركيا بين الفنية والأخرى.

لست هنا كي أكتب عن هذا "الرعب" فهو لا يحتمل التكرار، ولكنني سأكتب عن أيام "ما بعد الرُعب" في تلك الفترة التاريخية، وهي تستحق منّا اهتماماً أكبر ولربما تُساعدنا على فهم أعمق للتاريخ، فلا يُعقل أن يقف التاريخ عند المعارك وكأن لا شيء بعدها إلا سقوط الدولة العثمانية، فقد تأثرت أوروبا وتبدل فيها الرعب وتغير، وبدلاً منه راح الساسة الأوروبيون – والألمان خاصّة- ينظرون إلى العثمانيين الأتراك نظرة انبهار ودهشة من تراثهم وثقافتهم، وهو ما يُعرف بفترة "الموضة التركية" التي لم تستمر يوما أو يومين.. بل 200 عام!

هذا الانبهار الألماني بالشرق العُثماني لم يكن مُجرد صدفة؛ بل تجسيدًا للانفتاح على الحضارات الأخرى، وهو من أهم شارات عصر النهضة.

لست أقصد هنا عشق القهوة التركيّة التي عرفها الألمان والأوروبيون عمومًا من التجار العثمانيين في القرن السابع عشر، ولا حتى عن محلّات "الدونر" والشاورما التي تكاد تكون في كُل ناحية من نواحي ألمانيا، حيث تُشير آخر الإحصائيات إلى وجود 15 ألف مطعم لهذه الوجبة "التركية" في ألمانيا وتبلغ عائدتها السنوية حوالي 3.5 مليارات يورو، وهي مساهمة لا بأس بها في الاقتصاد الألماني، فهناك آثار كثيرة لا نعرف عنها إلا أقل القليل.

لو تأملنا أحوال مدينة دردسن اليوم، سنجد حركات مُعاداة الأجانب مثل "بيغيدا" نشيطة فيها، وسنجد أن متطرفاً قتل مروة الشربيني عام 2009 دُون ذنب، وسنجد مسجداً يتعرض لهجوم بقنبلة، والنكتة أننا لو فتحنا صفحات التاريخ وعدنا 300 عام إلى الوراء، وإلى عام 1719 تحديدًا لوجدنا أميرًا من أبناء درسدن وهو "فريدريخ أوغسط" قد تزوّج وجعل حفل زفافه مُستلهمًا من الحفلات العثمانية، وسنجد في الحفل مجموعة من الموسيقيين يرتدون زي الجيش الإنكشاري العثماني ويُطلقون الشوارب تشبهًا بالأتراك، ولم تكن هذه حالة شاذة في التاريخ الألماني والأوروبي بل هي جُزء من الموضة التركية – بالألمانية (Türkenmode)- التي استمرّت حوالي 200 عام وأكثر.

في مدينة درسدن نفسها، هناك اليوم متحف يُسمى "الحُجرة التركيّة" (Türkische Cammer) ويجمع بين جُدرانه أكثر من 600 تُحفة من الهدايا والسلع العُثمانية التي وصلت ألمانيا بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، حيث كان الأمراء يهتمون بجمع هذه التُحف النادرة القادمة من إسطنبول، كخيمة تم تطريزها بعناية فائقة أو مجموعة من أدوات الحرب كالسيوف والدروع وغيرها؛ مما يشهد على مدى انبهار القوم بما كان عند العثمانيين من فنون.


اليوم وبعد حوالي 200 عام.. يبدو وكأننا لا نتقدم بل كأننا نتأخر، فبدلاً من التركيز على الموضة التركية نجد الحروب التركية" حاضرة عند تأصيل الإرهاب.

وليس هذا المتحف الوحيد، ففي مدينة "كارلسروهي" جنوب غرب ألمانيا، هناك متحف آخر يُدعى متحف الغنائم التركيّة (Die Karlsruher Türkenbeute) وفيه حوالي 400 قطعة منها ما هو مقتنيات أو هدايا، ولكن أكثرها غنائم من المعارك، وقد تم الاحتفاظ بها بعناية شديدة ولا تزال أكثرها في حالة جيدة إلى ممتازة، فكثيرٌ منها لم يكن مألوفاً على الأوروبيين حينها، ولا نقصد هنا العتاد العسكري أو حتى الخيام الفاخرة فقط، بل هناك "المطهرة" وهي أشبه بقارورة فاخرة لحفظ مياه الشرب والوضوء كما يبدو من التسمية. كما تم الاحتفاظ ببعض كُتب الأدعية والأذكار التي سقطت من الجنود في المعركة، كما أن هناك قسم خاص في المتحف للآثار غير الملموسة كالموسيقى التي كان يعزفها الجيش الانكشاري والتي أصبحت لاحقًا مصدر إلهامٍ للموسيقار النمساوي الشهير "موتسارت" التي سمع عنها من جدّه فألف معزوفته الشهيرة "Alla Turca"، والتي يعرفها أكثرنا، ولكننا لا نعرفها حكاياتها.


هذا الانبهار الألماني بالشرق العُثماني لم يكن مُجرد صدفة؛ بل تجسيدًا للانفتاح على الحضارات الأخرى، وهو من أهم شارات عصر النهضة وليس يؤكد هذا الانفتاح شيئا كما مسجد شفتسنجن (Schwetzinger Moschee) ومساجد أخرى كتبتُ عنها ضمن مُدونتي "ليست للصلاة.. مساجد الحدائق في ألمانيا"، وهي كلها بمثابة دعوة للتنوّر والتسامح مع العالم في زمن لم يكن في ألمانيا إلا ثلّة صغيرة من المسلمين. 

اليوم وبعد حوالي 200 عام.. يبدو وكأننا لا نتقدم بل كأننا نتأخر، فبدلاً من التركيز على "الموضة التركية" نجد "الحروب التركية" حاضرة عند تأصيل الإرهاب.. ثم بدلاً من مُحاولة مد جسور التفاهم مع المُسلمين تتم تشويه صورتهم والتحريض ضدهم.. أما الأتراك وحكاياتهم مع الفن فهذه تجدها في المتاحف فقط، أما في الصحافة فهم أشبه بقطيع يقوده ظالم يُدعى أردوغان وفوق هذا يتم التحريض ضدّه بذريعة أنه كثير التعلق والتمجيد لأجداده العثمانيين!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.