شعار قسم مدونات

وزارة الأخلاق

blogs - ناس في الشارع
الأخلاق هي منبت الحضارات وعمودها الفقري، وزهرة الأديان وأحد أسباب نزولها، ومقصد الشرفاء وقبلتهم الأزلية، لا تقوم قائمة لأمة بدونها ولا يكتب لها النصر بغيرها. ولعل وصف الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ"، لهو أكبر دليل على أهمية الاتصاف بالأخلاق الحسنة، فلا توجد كلمات غاية في الدقة في وصف الحبيب كهذه الكلمات، وأيضا ظهرت جليا جوامع كلم العدنان صلى الله عليه وسلم، في حثه لأمته على التحلي بالأخلاق الحسنة في قول النبي (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا) رواه مسلم، ثم حدث عن أخلاق الصحابة والتابعين، إذن أين أخلاقنا المفقودة؟!

إن ما دفعني لكتابة هذا المقال وعنونته بهذا العنوان، عدة مواقف بعضها حدث لي وبعضها الآخر سرد لي وروى أمامي في الأيام القليلة الماضية، قبح وجه أصحابها بفعلها، فلا أدري كيف يعيش هذا الشخص وينعم بحياته ونومه وقد خلف وراءه هذه البذاءات، وهي بالطبع تصرفات فردية لا تسيء للمهنة بمجملها، ولكنها بالتأكيد تسيء لفاعليها، فهذا التاجر قد ملأ خزائنه بالسلع الغذائية محتكرا إياها، وترك الشعب في صراعه الدائم للحصول على الزيت والسكر، أما العامل في محطة الوقود فهو يجيد ملء خزان الوقود بالهواء لا الوقود، وبذلك يكون سعر لتر الهواء مساويا لسعر نظيره من الوقود، ولو أخذت جولة على ضفاف النيل، ستجد أنه أصبح مقبرة للحيوانات النافقة، وتحول لونه الأزرق إلى ألوان عدة صبغت بلون مخلفات المصانع.

أما في المدرسة فقد أصبح المعلم هو ذلك الشخص المعلن عن مزايا المركز التعليمي الذي يعمل به، وتناسى دوره التربوي العظيم تماما، وهذا المحامي الذي بمثابة الدرع الواقي والحصين للقانون، يستخدم مختلف الطرق وشتى ألوان الحيل للدفاع عن المخالف للقانون سواء كان قاتلا أو سارقا أو سالكا أي درب من دروب مخالفة القانون، وهذا البائع الذي يطفف الميزان ولا يبالى، وهذا الطبيب الذي اتخذ من تجارة الأعضاء البشرية مصدرا للربح، وهذا الموظف المرتشي عديم الأخلاق والضمير، وهذا الفلاح الذي يدس السم في الطعام بريه المحاصيل الزراعية بمياه الصرف الصحي، وهذا الإعلامى الذي ضلل شعبا بأكمله، وآخر أفقدته ضراوته في الهجوم والمعارضة وعدم الاتزان قيمة ما يفعل، فأصبح باهت التأثير، وشاب آخر تحرش بفتاة فأضاع حاضرها ومستقبلها…

إن وباء قلة الأخلاق الذي أصاب المجتمع في الآونة الأخيرة، والذي أصبح ينتشر بين أفراده انتشار النار في الهشيم، ينذر بشدة إلى كارثة كبرى ستلحق بنا كالكوارث التي لحقت بالأمم السابقة.

إن مظاهر الفساد (العرض الأكثر ظهورا في جسد المعتل بقلة الأخلاق) عديدة ومتنوعة، ومنابعه ما زالت تفيض وتجود، وتنتقل من جيل إلى آخر في نظام دقيق محكم، فقد نتصور أن الجهل هو أحد منابع الفساد الذي هو أحد مظاهر قلة الأخلاق، وقد يكون الفقر هو التربة الأكثر خصوية لتنامي هذه الظاهرة، وقد يكون التنوع الفكري وتعدد الطوائف الفكرية بين الناس، ووجود خلل واضح في تطبيق القوانين، جعل من الأخلاق شيئا نسبيا بين أفراد المجتمع الواحد، وهذه كارثة في حد ذاتها، فنسبية الأخلاق بين المجتمعات أمر طبيعي، لكنه أمر غير صحي ونذير شؤم بين أفراد المجتمع الواحد، وبذلك يكون تطبيق القانون أولوية لدى الحكومات التي تريد الحد من ظاهرة قلة الأخلاق، فتطبيق القانون يعني دولة عادلة، وإن كانت (الدولة العادلة) هي أحد طرفي معادلة رياضية، فإن الطرف الآخر لا يكون إلا "شعبا يمتهن حسن الخلق"، ولكن ماذا عن ظاهرة قلة الأخلاق في المجتمع؟ هل هذا دليل على أننا لسنا دولة قانون؟

قد يكون رأيي في هذا الموضوع نتيجة للتفكير خارج الصندوق نسبيا، يجوز… لكن طرحي لهذه الفكرة يكون على هيئة سؤال في صيغة استبيان، ما رأيكم في إنشاء وزارة للأخلاق؟ نعم نعم، لا تتعجب، هي وزارة على غرار وزارة السعادة في الإمارات العربية المتحدة، تضطلع بمسؤولياتها تجاه شعبها وأمتها، تعمل على تقويم السلوك الخاطئ الشائع بين أفراد أمتها بما يناسب توجهات الدولة والأعراف والمعتقدات السائدة، وتعمل على تجاوز هذه المرحلة التي آلت قلة أخلاقنا فيها إلى انحدار هيبة أمتنا العظيمة، وقد يكون عمل هذه الوزارة ليس بجديد، لعله يتشابه مع جزء من عمل المؤسسات الدينية على اختلاف معتقداتها وانتمائها، لكن إن ظهرت الدعوة لحسن الخلق في صورة نظامية حكومية ترعاها الدولة، وتوحدت فيها مفاهيم الأخلاقيات عند رعاياها فتصبح الأخلاق واحدة وثابتة عند الجميع، حتما سنتفادى الصدامات الطائفية.

إن هذا الوباء (قلة الأخلاق) الذي أصاب المجتمع في الآونة الأخيرة، والذي أصبح ينتشر بين أفراده انتشار النار في الهشيم، ينذر بشدة إلى كارثة كبرى ستلحق بنا كالكوارث التي لحقت بالأمم السابقة، جراء قلة أخلاقهم مع أنبيائهم ومخالفتهم دعوة أنبيائهم إلى عبادة (الله عز وجل)، وبذلك نصبح عبرة للأجيال القادمة، ومصدر إلهام للوعاظ في مجالس الوعظ والذكر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.