شعار قسم مدونات

أردوغان يهزم الديمقراطية الأوروبية

مدونات رجب طيب أردوغان

لقد صدع الغربيون رؤوسنا هم ومن يناصرونهم من بني جلدتنا أن الديمقراطية ليست صندوق اقتراع فقط بل هي مجموعة من الحقوق والحريات يجب أن تكفلها الدولة لتصبح ديمقراطية وأهم هذه الحقوق هي حق الرأي وحق التعبير اللذان يجب أن يكونا مصانان في أي ديمقراطية حقيقية. كان من المتعارف عليه أن الأوروبيين أكثر تمسكا بقيم حقوق الإنسان من الأمريكيين الذي يستخدمون حقوق الإنسان ككرت ضغط على بعض الدول المارقة وفي نفس الوقت يتغاضون عن انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان تصدر من حلفاؤهم مثل صمت وتأييد الولايات المتحدة للعدوان الإسرائيلي على غزة أكثر من مرة بحجة أن إسرائيل تحمي نفسها في حين كان الأوروبيون يصدرون إدانات على إستحياء وكانت مظاهرات دعم فلسطين تعم أوروبا.
 

 ولكن مع تركيا أردوغان تحديداً تبين أن الأوروبيين لا يقلون وقاحة عن الأمريكيين في الإنتهازية والتناقض فقد سمحت الدول الأوربية لحزب العمال الكوردستاني بالقيام بأنشطة وندوات للجاليات الكردية في أوروبا في حين أنها منعت وزيراً تركيا من عقد ندوة لدعوة الناخبين للتصويت في تعديلات الدستور التركي بحجة التهديد الأمني والخوف من وقوع الصدامات بين الأكراد والأتراك وكأن تلك المعارض والمسيرات والمظاهرات المرخصة التي يسمح لها بالقيام تدعو للأخوة التركية الكردية.
 

إن سبب القهر الأوروبي من أردوغان ليس في كونه إسلاميا أو تركيا بل في أنه رجل حاذق ويعرف كيف يتعامل مع النخب الأوربية والتي هي نخب متعجرفة جدا وتنظر إلى أهالي هذه المنطقة نظرة احتقار وازدراء

إن منع ألمانيا وهولندا ومن سار على طريقهما من الدول الأوروبية السياسيين الأتراك من إقامة ندوات سياسية لدعوة الناخبين للتصويت بنعم في استفتاء التعديلات الدستورية يشير بوضوح أن الديمقراطية الأوروبية لم تعد ديمقراطية (تحت ضغوط اليمين المتطرف) وأن أوروبا مهددة حقيقة بصعود تيارات فاشية ونازية مثل التي صعدت ما بعد الحرب العالمية الأولى فحملات اليمين المتطرف أشعلت نار التعصب القومي الذي ظن الجميع أنه انطفئ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وكارثية النتائج التي حصلت من وجود الاحزاب القومية في السلطة. رفض دول أوروبية لدخول السياسيين أتراك أمثال الوزير أوغلو والوزيرة فاطمة البتول غايا هو تدخل صريح في العملية السياسية التركية ومحاولة توجييها باتجاه معين لأن هذه الدول سمحت لمجموعات الرافضين للتعديلات الدستورية بإقامة ندواتهم على أراضيها.
 

إن سبب القهر الأوروبي من أردوغان ليس في كونه إسلاميا أو تركيا بل في أنه رجل حاذق ويعرف كيف يتعامل مع النخب الأوربية والتي هي نخب متعجرفة جدا وتنظر إلى أهالي هذه المنطقة نظرة احتقار وازدراء وتبتز دولها باسم حقوق الإنسان وباسم الديمقراطية وذلك عبر دعم بعض المنظمات غير الحكومية ثم إظهار بعض التباكي في مجالس حقوق الإنسان العالمية مع التلويح بإمكانية الصمت على هذه الإنتهاكات عبر صفقات تجارية تكون فيها الفائدة مضاعفة للدول الغربية.
 

لا أعرف ما سر هذا الحرص الأوروبي على الديمقراطية التركية مع أن الأوروبيين  تعاونوا  مع الحكومات التركية المتعاقبة بما فيها العسكرية  منذ الخمسينات أيام السوق الأوروبية المشتركة ولم يظهر الأوروبيون في أي وقت إكتراثا بديمقراطية الدولة التركية اللهم إلا عندما بدأ الحديث عن ضم تركيا إلى الإتحاد الأوروبي وقتها أبلغ الأوروبيون الأتراك أن عليهم شروطا ليصبحوا أوروبيين ، أولها كان الديمقراطية فقد كان الأوروبيون يبتزون الأتراك طوال عشرات السنوات أن السبب الرئيسي لعدم قبولكم هو أنكم دولة غير ديمقراطية وأن عليكم القيام بإصلاحات تشريعة ودستورية تتوافق مع المعايير الأوروبية ، وطوال عقود كان الأتراك يلهثون مطبقين الإملاءات الأوروبية ومعدلين في قوانينهم الوطنية وبعد هذا لم يقبل الأوروبيون الحوار بشكل جدي مع تركيا بشأن الإنضمام للإتحاد الأوروبي وقاموا قبول دول لا تملك لا المقدرات ولا الموارد التي تجعلها جزء من الإتحاد الأوروبي وعملته اليورو بل هي عالة على اليورو مثل اليونان التي هي في خطط إنقاذ باستمرار من سنوات والجميع يعلم أن السبب الرئيسي لرفض الأوروبيين لقبول الأتراك في ناديهم هو سبب (ثقافي وديني) رغم أن هذه الدول الأوروبية تتغنى بالعلمانية. 

أردوغان عرف كيف يتعامل مع هؤلاء المتعجرفين ويرد عليهم الصاع صاعين ويبتزهم ويجبرهم على إعطاءه أموال لإنفاقها على اللاجئين السوريين حتى لا يركبوا البحر ويزحفوا إلى أوروبا وكذلك رهن إغلاق ممر الهجرة غير الشرعية بإعطاء الدول الأوروبية للأتراك حرية الحركة والتنقل في أنحاء الإتحاد الأوروبي وهذا الأمر هو خطوة جبارة في طريق الاتحاد الأوروبي. لقد كان هذا الأمر هو إهانة كبيرة للأوروبيين ولكنهم تقبلوا الأمر حتى يرتاحوا من جيوش طالبي اللجوء الزاحفة نحو المدن الأوروبية وأضمر الأوروبيون الانتقام من أردوغان في أول فرصة وكان هذا الأمر في انقلاب الصيف الماضي.

حيث أظهر الأوروبيون تفهما واضحا للإنقلاب على أردوغان وصرح مصدر أوروبي لوكالة رويترز في ليلة الانقلاب أن التحرك يشمل عدداً كبيراً من الضباط والجنود وأنه من الصعب تخيل أن الغلبة ليست لهم وهذا التصريح كاشف لحجم السعادة الأوروبية بالانقلاب ولكن السعادة لم تكتمل حيث استطاع أردوغان وأنصاره من إسقاط الانقلاب العسكري وكانت هذه فرصة ذهبية لأردوغان  ليطلق يده في الإنقلابيين ويلاحقهم وعندها فقط استيقظت النخوة الأوروبية لحقوق الإنسان ليتحدث يوهانس هاس مفوض توسعة الاتحاد عن قائمة مسبقة للحكومة التركية للاعتقال، ولم تخرج من الاتحاد الأوروبي أدنى إدانة لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا كالإدانات التي خرجت من الولايات المتحدة وروسيا ومختلف دول العالم للانقلاب وإعلان دعم الحكومة الشرعية.

وأما بالنسبة للأزمة الهولندية التركية الأخيرة فإن هولندا كدولة أصبحت رهينة في يد تيار اليمين المتطرف المتصاعد منذ زمن اغتيال المخرج ثيو فان كوخ مخرج فيلم الخضوع المسيئ للإسلام والذي تم اغتياله على يد فتى مغربي متحمس ومن ذلك الوقت فإن هولندا فيها حملة واسعة للهجوم على الإسلام كدين من قبل بعض الشخصيات الحاقدة في هولندا.

 

وكان أبرزها هو المخرج خيرت فليدرز والذي وصل لمستوى من التطرف غير مسبوق كالإعلان عن نيته حظر القرآن في هولندا وكذلك الشتائم المرعبة التي يقولها بحق الأتراك والمغاربة وهما أكبر جاليتين إسلاميتين في هولندا ويصل تعدادهما إلى 800 ألف مواطن من أصل 10 ملايين هولندي أي أن الأتراك والمغاربة لوحدهم يمثلون 8% من سكان هولندا. مؤسسات الدولة الهولندية عاجزة عن ردع هذا المتطرف فمرة تعتبر محكمة هولندية أن دعوة فليدرز لحظر القرآن هي جزء من حرية التعبير ومرة ثانية تدين محكمة فليدرز بالعنصرية ثم لا تعاقبه باعتبار أن إدانته هي أكبر عقوبة له.
 

ليست هولندا (سبينوزا) استثناءا فالوضع مشابه في ألمانيا وفرنسا الذين هم قلاع الديمقراطية في أوروبا الغربية ففرنسا أيام حملة ساركوزي 2012م قاموا بصياغة قانون إبادة الأرمن وهو القانون الذي وجد رفضا حتى من المجلس الدستوري الفرنسي

وهذا الوضع ساهم في أن يكون التحريض على الإسلام جزءا لا يتجزئ من برنامج الأحزاب الهولندية حتى (المعتدلة نسبيا منها) فكلهم تحت ستار الاندماج يريدون التخلص من كل المظاهر الإسلامية في هولندا ويرغبون في طرد المسلمين لدرجة أن رئيس وزراء هولندا الحالي مارك روته هاجم المسلمين الهولنديين واصفا إياهم بالغرباء وأن عليهم القبول بحرية التعبير في هولندا (يقصد خيرت فليدرز) أو أن عليهم حمل أمتعتهم والخروج من البلاد، وأن من يقبل حرية التعبير يمكن أن يصبح مثل عمدة روتردام (المغربي).

 

ليست هولندا (سبينوزا) استثناءا فالوضع مشابه في ألمانيا وفرنسا الذين هم قلاع الديمقراطية في أوروبا الغربية ففرنسا أيام حملة ساركوزي 2012م قاموا بصياغة قانون إبادة الأرمن وهو القانون الذي وجد رفضا حتى من المجلس الدستوري الفرنسي وألمانيا فعلت نفس الشيء من أجل ضمان أصوات مبغضي الأتراك في الانتخابات وأصدرت الحكومة الألمانية قرارات تحظر النقاب لجذب الأصوات.

 

نعم أردوغان منذ عام 2015م لم يعد رئيسا ديمقراطيا بسبب الظروف الأمنية التي خلقها التمرد الكوردي والعمليات الإرهابية لداعش ومؤخرا محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة وتحت ستار مكافحة الإرهاب والكيان الموازي منع أردوغان قنوات وأغلق صحف وقصف بأقلام وسجن عشرات الآلاف والآن الأوروبيون يبدو أنهم مستعدون لفعل نفس الشئ فبرلماناتهم تتبارى لوضع قانون إسقاط الجنسية عن الإرهابيين (المزعومين) وعبر قوانين الطوارئ والاحتياطات الأمنية تشن حملات اعتقالات وتجسس على اللاجئين والجاليات المسلمة ويتم حظر أنشطة منظمات إسلامية معتدلة مثل منظمة الدين الحق في ألمانيا ويلوح بنفس هذا الأمر لمنظمات إسلامية أخرى بحجة أنها مدعومة من أردوغان للتجسس ومن السعودية لنشر الوهابية.

 

ديمقراطية أردوغان العرجاء في أوروبا لم تعد وحيدة وهذا أكبر انتصار لأردوغان فأوروبا كلها عبر عدائها المفرط لأردوغان والإسلام والمسلمين أصبحت ديمقراطيتها عرجاء والتضامن الأوروبي الغريب مع السلوك المشين الذي قامت به هولندا لن ينجح في شئ إلا إظهار أردوغان كبطل تركي وكزعيم إسلامي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.