شعار قسم مدونات

عن الجماهير.. الوعي.. والثورة

الثوره المصريه
يوظّف الكاتب السينمائي القدير (وحيد حامد) في فيلمه (النّوم في العسل)، الضّعف الجنسي كترميز لمدى الشلل الفكري والحسّي اللّذَيْنِ يُصيبان الفرد، عند احتكاكه الغير مكبوح بالجُمُوع، خاصّة إذا كانت الجُمُوع تعيش في ظلّ سلطة غير ديمقراطية، فيستحيلُ كائناً بليداً، لا يتجاوب مع أكثر المواقف والأحداث استفزازاً وتهييجاً، إلّا تجاوباً ساذجاً لا حركةَ فيه ولا انفعال. إنّ الشخص الوحيد الّذي يحظى بلَذَّتِه في الفيلم، هو من يتمايز عن الحشد الخامل، فيُغادر عَمَارَ القاهرة، مستعيناً بالوِحدة والخلاء.. من هنا يمكنني القول بِنفسٍ مطمئنّة، أَنّ تحقيق الأهداف والأحلام الكبيرة، لا يتأتّى، إلّا بتجاوز مَضَارِب السّائد والنّمطي.


في عام 1895 كتَبَ (تشيخوف) مسرحيّته العظيمة (النّورس)، و ممّا يُحَرِّضُ على الاكتئاب، أنّ رائعته هذه، مُنِيَت بفَشَلٍ ذريع، في العرض الأوّل لها على مسرح (بيترسبورج)، و يُعتَبَرُ سقوطها مِن وجهة نظر النقّاد، شاهداً تاريخيّاً، على أنّ المسرحيّة الرّائعة، يُمكن أن تلقى الفشل على أيدي جمهورٍ ضَيِّقِ الأفق، عديم الخيال.. 
ينبغي تقرير حقيقة لا مَنَاصَ منها، إنّ الكاتب الكبير، يحتاج إلى قارئٍ كبير، لأنّه يدفع بقارئه إلى السَّفَرِ بعيداً بحثاً عن شيءٍ من المعنى، يدفعه إلى ملء الفراغ، و لا يضع المعنى بين يديه، لذا فأنا أقدّر عالياً جهود التنويريّين في عالمنا العربيّ، حين يُمِرّرون رسائلَهم تساؤلاتٍ و إثارةَ شكوك، إنّهم يقلبون السّحر على السّاحر، و كأنّي بهم يُحَاكُونَ (فرساوس) في تغلّبه على (ميدوسا) عندما دفع بدرع أثينا، الذي هو في صفاء الزّجاج إلى وجهها، قبل أن يقتلها بسيفه. وإن كان لا يمنع من تفعيل الحكمة الإنجليزيّة القائلة (short sharp shock) بين الحين والآخَر.


نرى كيف كانت جموع الثوّار، من النساء والرّجال، يجتمعون في ساحة الثورة ليستمتعوا بمشاهدة المقصلة، وهي تُطِيحُ برقابِ النُّبَلاء. إنّ الجماهير تتعلّم ببطء، لكنّها حين تتعلّم، تتعصّب للفكرة أكثر من تعصّبِ صاحب الفكرة نفسه.

إنّ الكاتب الكبير بحاجة إلى قارئٍ ذوّاقَة، تُضيفُ قراءتُه للنصّ أبعاداً جديدة، قراءةٌ لها خاصيّة صوت (فيروز) (فيروز لا يتألّف غناؤها من كلامٍ، ولَحنٍ، وصوت، فهي عندما تُغَنّي تكتُبُ الكلام بِصَوتِهَا، ليأخذَ معنى جديداً، وأبعاداً جديدة، لا يعرفها الشاعر الّذي كَتَبَ الكلمات) (الشاعر اللّبناني طلال حيدر)، وللسّبَبِ ذاتِه، رَفَضَ صحفيٌّ على الفضائيّة السوريّة، أن يقرأ قصيدةً لدرويش، وقال لدرويش إن قرأتُها أنا ما راحْ تِطْلَعْ حِلْوِي، ولكن اقرَأها أنت.


لا يمكن لأيّ أحدٍ أن يُعبّر عن كل ما يخالجه بالكلمات، و لا استثناءَ في هذا حتّى للكاتب نفسه مهما علا كَعبُه وَ رَهفَ قلمُه، لسبَبٍ بسيط، إنّ المعنى أرحبُ من أن يوضعَ في زنزانة اسمها الكلمة، الكلمة تُجاهد لتصيب نصيباً ضئيلاً من المعنى، لهذا عندما نفقد حبيباً، نفقده إلى الأبد، أو يرضى بِوصَالِنَا بعد طول تمنُّعٍ و صدّ، فنختلي به و لا نَجِدُ ما نقول، كأنَّ الخَرَص قد أصابنا، و يتدفّقُ االبَوحُ مِن عُيُونِنا، حينَ تَخُونُنَا، فَنَبكي و تنزلُ الدموع على خدودنا، وكأنّ الدّموع هي لسانُ الحُبِّ البَلِيغ. قارئ حسّاس يتخيّل ويعيش ما يقرأ، ليتمكّن من رَصد أرواح المعاني، التي تسكن جَسَدَ الكلمات قارئ يتعامل مع ما يقرأه، على أساس أنّه مادّة خامّ، ينبغي أن يشكّلها بِخياله الفنيّ، ويضع عليها بصمتَهُ الخاصّة.


يتكلّم (ويل ديورانت) في كتابه (قصّة الحضارة)، أنّ الفترة التي سبقت الثورة الفرنسيّة، اتّسمت بانتشار حبّ القراءة والمطالعة بين صفوف الشعب الفرنسي. أجدني مضطرّاً وأنا أعرض كلام (ويل ديورانت) هذا أن أشير إلى أنّه في سنة 1901، عندما عرض(تشيخوف) مسرحيّة (الأخوات الثلاث)، لاقت نجاحًا باهراً، وهذا مؤشّر واضح عن أنّ سببب انتصار ثورة 1917، كان انعكاساً لتطوّر الوعي.


الخبر الجميل الذي أريد إخباركم به، هو أنّ بناء وعي وذوق الجموع يحتاج وقتاً، لكنّه عندما يكتمل نموّه، ويشتدّ سوقه، فإنّه يقتصّ دون رحمةٍ من أخطاء ماضيه، ولعلّ أفضل رواية، يمكنني تأييد بها ادّعائي هذا، هي رواية (الآلهة عطشى) لـ(أناتول فرانس)، التي نرى فيها الشعب وقد أفاق من سباته، ليصبح جلّاداً لا يرحم، نرى كيف كانت جموع الثوّار، من النساء والرّجال، يجتمعون في ساحة الثورة (ساحة الكونكورد حاليّاً) ليستمتعوا بمشاهدة المقصلة، وهي تُطِيحُ برقابِ النُّبَلاء.

إنّ الجماهير تتعلّم ببطء، لكنّها حين تتعلّم، تتعصّب للفكرة أكثر من تعصّبِ صاحب الفكرة نفسه. فصبراً فإنّه من يعش منكم فسيرى عجَباً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.