شعار قسم مدونات

الأثر النفسي للصلاة

صلاة
ذكرت في مقال سابق (الأثر النفسي للدعاء)، أن الدعاء عبادة في ذاته و له أثر مباشر على عقيدة وأفكار وسلوكيات الداعي فضلا عن أثره الديني أو استجابته. ولأن كل عبادة لها أيضا تأثيرات نفسية على العبد؛ فالصلاة وهي أهم وأعظم عبادة شخصية وجماعية من شانها أن يكون لها أيضا هذا التأثير النفسي والاجتماعي المباشر والكبير.

لدراسة الآثار النفسية لابد من النظر للصلاة على أنها لغة جسدية، واللغات الجسدية كما لها مدلول نفسي يستدل منه على الصفات الشخصية للإنسان؛ فهي أيضا لها تأثير على سلوكيات الشخص وأفكاره ومعتقداته وحالاته المزاجية أحيانا. الشق الأول معروف ومفهوم؛ فحركات اليد أثناء الحديث وشكل الجلسة و وضعية النوم وتعبيرات الوجه وحتى الصمت له مدلول نفسي، وربما يرقى فهم هذه الدلالات إلى علم مستقل بذاته.

مما لا شك فيه أن وجود إمام للصلاة يذكرنا بأننا أمة منضبطة، لا يجب أن تخلو من قائد، وأننا كأسنان المشط لا فرق بين عربي وأعجمي، أمة نظامية تجتمع بمحبة على ذكر الله، ولا تتفرق إلا علية.

الشق الثاني وهو أثر الحركات الجسدية على الحالة النفسية والمزاجية للشخص يمكن فهمها من مشاهد كثيرة في الحياة اليومية؛ فمثلا لا يستطيع أحد إنكار أثر ممارسة الرياضة كالجري مثلا على الحالة النفسية، وربما نجد من يبحث عن السكينة في ممارسة اليوجا، ولقد ورد في السنة مثل هذه الدلالات؛ فمثلا، أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغضبان أن يغير هيئته الجسدية؛ فإن كان واقفا فليجلس فقال: "إذا غضب أحدكم و هو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب و إلا فليضجع".

لما لدلالة وضعية الجسد من أثر على الحالة النفسية؛ كذلك فالجلسات التي كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبر في مجملها عن الاتكاء بغرور، فمثل هذه الإتكاءات تنمي في الإنسان الكبر؛ إذا فهناك علاقة جدلية بين حركات الجسد والحالة النفسية للإنسان على مختلف المستويات. إذا هل للصلاة باعتبارها حركات جسدية أثر ودلالة نفسية على الفرد والمجتمع؟ الإجابة على هذا السؤال تأتي عندما نتأمل في لغة الجسد عند الصلاة.

في البداية، الصلاة هي علاقة بين العبد وربه، يجب أولا أن تترك الدنيا خلف ظهرك وأن تقبل على الله بقلبك، وهذا واضح في أول حركات الصلاة وهي تكبيرة الإحرام؛ فهي رفع اليد إلى أعلى من الداخل إلى الخارج وكأنك ترمي أفكارك الدنيوية خلف ظهرك، ثم تقبل على الله بحركة اليدين إلى الداخل وكأنك تقبل على الله، وكما هو معلوم فإن حركة الجسد من الداخل للخارج تعني الرفض والترك؛ فعندما تشير لشخص أن يبتعد تشير له بيدك في هذا الاتجاه والعكس بالعكس وحركة الجسد من الخارج للداخل وهي الشق الثاني من تكبيرة الإحرام تعبر عن الإقبال والقبول.

الحركة الثانية في الصلاة هي الركوع، ثم يتبعها السجود، وهي أيضا حركات قبول وإقبال، فهي انثناء الجسد للداخل ثم الوقوف للاستعداد لتمام انحناء الجسد على نفسه (هيئة السجود)؛ ليعبر عن تمام الإقبال على الله؛ ولهذا فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

أما الأثر النفسي والاجتماعي للصلاة في جماعة، فمما لا شك فيه أن وجود إمام للصلاة يذكرنا أننا أمة منضبطة، لا يجب أن تخلو من قائد، وأننا كأسنان المشط لا فرق بين عربي وعجمي، أمة نظامية تجتمع بمحبة على ذكر الله، ولا تتفرق إلا علية؛ صفوفنا للصلاة له نظام رباني ملائكي يقول عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم "وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة"، ومما يؤكد هذا الأثر النفسي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة "لتسون بين صفوفكم أو ليفرقن الله بين وجهكم"، وروى الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخلل الصف من ناحيته إلى ناحيته يمسح مناكبنا وصدورنا، ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم".

هذ التصفيف ينعكس بالضرورة على ضرورة انتماء كل منا لإخوته ولأمته، ويؤكد على فكرة الجسد الواحد ويزكي عقيدة الولاء و يزيد مشاعر المحبة وعاطفة الأخوة، وينشر سلوكيات التواضع للمسلمين وعلى وجه الخصوص صلاة الجمعة؛ إذ هي بمثابة الجمعية العمومية ومجالس الإدارات للمسلمين، وكما أن في الدنيا من يتغيب عن الحضور مثل هذه الاجتماعات عدد معين من المرات يسقط انتماءاتهم؛ فكذلك صلاة الجمعة يسقط انتماء الشخص إذا غاب عنها، حيث يقول صلى الله عليه وسلم "من ترك ثلاث جمعاتٍ من غير عذرٍ كتب من المنافقين".

انثناء الجسد للداخل ثم الوقوف للاستعداد لتمام انحناء الجسد على نفسه (هيئة السجود)؛ ليعبر عن تمام الإقبال على الله؛ ولهذا فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.

إذا فهذه الحركات يجب أن يدركها العبد قبل أن يؤديها ويرتاح بها لا أن يرتاح منها، ويتأمل فيها حتى يتأثر بها تأثرا حقيقيا فتحلق به من شهوات الدنيا ولذاتها إلى نعيم الآخرة وحسناتها؛ فهي ليست حركات جسدية اعتيادية؛ بل هي استثناء رباني حقيقي، لها ارتباط وجداني عميق وأثر نفسي غائر، من شأنه أن ينعكس على سلوكيات المسلم؛ ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أن فوات هذا الأثر خسارة تعدل خسارة ترك الصلاة نفسها حين قال: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ".

ولهذا فالخشوع والتأني في الصلاة من واجبتها؛ ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل المسرع (المسيئ) في صلاته أن يعيدها، وقال له: قم فصلى فإنك لم تصلي، إذ أن العقل يحتاج لفترة زمنية معينة حتى يدرك وضعية الجسد، ثم فترة زمنية أخرى حتى يحدث أثر هذه الوضعية؛ فالعجب ممن ارتضى بنفسه أن يترك مشاغله أو عمله، ثم ينصرف إلى الله تاركا خلفه كل ما يشغله عنه قائلا الله أكبر، رافعا ذراعيه راميا الدنيا خلف ظهره، ثم هو ينشغل في صلاته عن صلاته ويسمح للشيطان أن يشغله بما هو أصغر عن ما هو أكبر! الله أكبر من الدنيا الله أكبر من الأولاد الله أكبر من المال الله أكبر من كل ما هو أكبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.