شعار قسم مدونات

عن الانتماء والهوية

blogs - جواز سفر سوري
لم أكن لأجد صعوبة في تعريف نفسي أمامي قبل الآخرين قبلاً، فقد كنتُ سورياً طيلة عمري، أمام العالم وأصدقائي ونفسي، وربما رغبتي الدفينة في أن أكون.. كنت فضولياً جداً حول أصول عائلتنا، لا أستطيع إنكار ذلك، إلا أنّ تلك الأسئلة لم تكن لتشكّل لي أزمة في الهوية، أو حاجزاً بين الانتماء والهوية، بين الإقامة والمواطنة..

حقيقة، لم نكن نولي تلك المواضيع أولوية في أحاديثنا أو حياتنا، لم تكن سوى تاريخاً، وبعض النكات السخيفة التي نبتكرها عن أنفسنا، ربما كون الهوية مجرد ورقة، شيء لا نشعر بامتلاكه، مما حدا بنا للتمسّك بالشيء الحقيقي الوحيد الذي نمتلكه، الانتماء..

لربما كان الوضع مختلفاً عميقاً هناك في لا وعيي، لم يكن موضوع هويتي أمراً مسلماً به، فلم تتطابق رغباتي ووعي، كنت نصف سوريّ -إلا أن الموضوع لم يكن بذاك الإقناع-، لأمٍ سورية، سوريّ المولد -وهذا أمر آخر-، وسورياً جداً، دمشقي للغاية في نظر أقاربي وأصدقائي وجميع من عرفني، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً ليخمد ضجيج عقلي أو ترداد أسئلتي..

وربما ليس كافياً أيضاً في مجابهة العالم الحقيقي، حيث للأوراق الكلمة الفصل، حيث صار عليّ أن أبرز هويتي لا انتمائي، وحيث لا يجدي جوابي المعتاد في وجه كل من يشكك في هويتي أو انتمائي –حيث كانا شيئاً واحداً عندها- "فعلياً هالشي مeل منافسة بين أبوين، واحد عطاك اسمه وواحد رباك، يمكن الاسم رح يضل ظاهر بس الشي اللي بيضله أثبت من الاسم هو خير التاني بلحمك، وآثار حبه فيك" أيّ نفع يرجى ..

أدركت معنى النفي، معنى تجريد الإنسان من أرضه.. أدركتُ حقاً في تلك اللحظة تعاظم الانتماء فيّ حتى غدا هوية، أدركتُ ذلك ولو متأخراً، يومَ أصبحتُ على وشك خسارته.

لم يكن سؤال الناس أو استغرابهم الحقيقة -بعد معرفة طويلة الأمد-ليؤثر فيّ، كما لم تكن أيّة تهكمات لتؤثر بي، أو بيقيني كوني من عرق سوري صافٍ، إلا أني في لحظتي هذه أجدني أجيب لا شعورياً بأني نصفُ سوري أو أزيد من النصف بقليل..

ولدتُ لأم سورية، في دمشق، لأبٍ من أصول إيرانية، من مشهد في خراسان، وجنسيّة إيرانية لمن يسأل، لعائلة نصفها سوري ونصفها إيراني، ولدتُ وعشت بوطنين أحملهما على عاتقي.. حاولتُ مراراً تعلّم الفارسية، كنت مهووساً بالثقافة والأدب الإيراني، بالبحث في جذور عائلتنا، باكتشاف البلد الذي أُريد لي حمل اسمه وهويته إلى ما شاء الله..

والذي لم أكن أحملُ حقيقة أيّة مشاعر تجاهه، إلا أنه الفضول تجاه شيء ملتصق بي، كجزء من صفاتي الوراثية اللااختيارية.. وأجدني اليوم، بعد كل ما مررت به من تجارب، ومسافات وتضحيات أقدمتُ عليها لأكون هنا، كنتُ غافلاً طوال حياتي عن أهمية انتمائي، بحيث أني لم أشعر بقوّة الانتماء يوماً، كاليوم الذي أحسست بهم يحاولون تجريدي منه..

كان ذلك عقب خروجي من معتقل متجهاً نحو آخر، والذي كان معتقلاً للأجانب قيد الترحيل، كإيداعٍ في الفترة التي بقيت لنا في البلد. أُريدَ لي العودة لإيران، هكذا تم إخباري، كيف لي أن أعود لبلد لا أعرف منها شيئاً سوى اسمها، جغرافيتها، وشيئاً من ثقافتها، كيف لها أن تكون عودةً لا ذهاباً..

كانت عودةً دون عودة، كقدر محتوم بألّا أطأ أرض سوريا لمدة تقارب الخمس سنوات، أدركت عندها معنى النفي، معنى تجريد الإنسان من أرضه.. أدركتُ حقاً في تلك اللحظة تعاظم الانتماء فيّ حتى غدا هوية، أدركتُ ذلك ولو متأخراً، يومَ أصبحتُ على وشك خسارته، لأجرّد من حقي في العودة لمسقط رأسي والمعلم الرئيسي الأول في حياتي ..

لربما يشكل ذلك منطقاً للناس التي تستغرب شوقي لدمشق، بعد كل الذي حلّ بي وبها، لعلّهم لم يجّربوا تجريدهم من الخيار في مغادرة الأرض، أو الوقت الكافي لحزم الحقائب وصياغة كلمات ولحظات الوداع الأخيرة .. وبعدها، حين استطعت استحقاق بقائي المشروط في بلدي، بمساعدة أهلي وبمساندة من "الظهر" الحكومي، وبعض "الكوسا" ..

ثم تمسّكت به مجدداً -بعد إدراكي ألّا هوية دون انتماء- حين اضطررت لمغادرة الوطن، بحثاً عن وطن آخر أو منفى، يمنحني أماناً، كانت السيارة تمضي عندها قدماً بينما تتابع عيناي الأفق بحثاً عن دمشق ..
ذلك البحث الذي استمر معي على مدى أزيد من سنتين ونصف، أمضي فيها بجسدي قُدماً بحثاً عن هويتي، بينما تطالع روحي الأفق تمسكاً بدمشق، حيث تنتمي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.